+ A
A -
مَن قال إن المرأةَ لا تَشقى؟!
لن نُصَدِّقَ كُلَّ مَن يَقولها، لكن لِمَ لا نُنْصِتُ إلى معزوفة قَلَمٍ لا يَجد عناءً في أن يَرسم لنا حدودَ العالَم الغامض الذي تُسِرُّه المرأة وتَحجبه عن نوافذ الضوء.. إنها فتنة الألوان وجاذبية الفرشاة تلك التي تَتَفَنَّنُ في مُجاراة فتاة، فتاة يَليق بخالقها الأَمَّار بنَفْخِ الرُّوح فيها رَسْماً أن يُنْطِقَها بما يُريد لنا أن نَقرأَه..
إنها لوحة شقية تُداعب حواسنا المرئية والخفية لِنَنْصَهِرَ على جسر الإبداع انصهارَ فتاةٍ تَفتح علبتَها السوداء لِتُبحر في قراءة رسالة مِن الزمن الآخَر في ضوء شمعةٍ تُلهِبُ المكتوبَ حرقة ودموعا كما يَحلو، أو لا يَحلو، لشمعة أن تَحترق وتَدمع تماما كما يَشقى على أنثى أن تَحترق وتَدمع، تَدمع حتى وإن استعصَت الدموعُ.
«JEUNE FILLE LISANT UNE LETTRE A LA BOUGIE» لوحة رقيقة للرسام الفرنسي المتألِّق جون بابتيست سانتير JEAN-BAPTISTE SANTERRE، هي لوحة أنيقة تَعِدُ بقول كُلّ شيء، لكنها لا تَقول أكثر مما يَجدر بكَ أن تَقرأه بين طَيَّات ألوانها، فتُريكَ بالتالي كُلَّ شيء، وتَقول لكَ بلسان الدلال: اُعْبُرْ جُسوري، تَهَيَّأْتُ لَكَ..
في مانيي MAGNY-EN-VEXIN فَتَحَ جان بابتيست سانتير عينيه، لكن لِنَقُلْ إنه فتح أكثر فأكثر عينَه الفنية التي اسْتَدْرَجَتْه إلى مُدُن الضوء والجمال، وأهَّلَتْهُ بالتالي لِيُرينا ما لَمْ نَرَه..
مَن كان يُصدِّق يا صديقي أن مَولودا لعائلة فقيرة قليلة الحَظّ في الثراء والزاد وصاحبة ما يُعادِل دَزينة مِن الأولاد سيُتاح له المجال ليَتأمل ويُعاينَ ويُرَبِّيَ ذَوقَه الفني لِيُتحِفَ الناظرَ الذوَّاق بما لذَّ وطابَ مِن أطباق!
إنها أطباق جان بابتيست سانتير التشكيلية التي مهر في رسم مكوناتها لتتجلى للرائي الذي يَعبُر سُطورَ اللون في صورة تُفاح مائدة الفنّ..
مائدة سانتير الدَّسِمَة بمكوناتها، تلك، تَجعلك تُغَذِّي حاسةَ الشم الفنية لتتسلل إليك رائحة الفنّ المنبعثة مِن قلب اللوحة عَبِقَةً تُهَيِّجُ إحساسَك بِنَبْض الجَمال الموازي له المعنى..
صحيح أن جان بابتيست سانتير تَفَرَّغَ، إلى حَدٍّ ما، لرسم البورتريهات هو الذي تَشَبَّعَ بفَنّ البورتريه على يَد المعلم فرانسوا لومير FRANCOIS LEMAIRE، غير أنه برع إلى حدِّ الإبهار في الإبداع والتخيل من منطلق محاكاة أبطال خياله الذي كان يُمْلِي عليه الصعودَ إلى جبل الإعجاز سُمُوّاً وعُلُوَّ شأنٍ..
للأنثى حضور قوي وطاغٍ في لوحات جان بابتيست سانير، فهل يُفسر ذلك متعة الغوص في كِيان شغفَ به معرفةً عن قرب، أم أن جهله بعالَم شفاف وغامِض هو الدافع إلى محاولة القبض عليه في أكثر من لوحة تُسَيِّج مساحةَ الخطوة الهاربة بعيدا عن قدمَيْ أنثى يُجبِرُها جان بابتيست على الخضوع كمدخل للجم لسان رغبتها في الانفلات؟!
هل يَكون جان بابتيست مَن يُلاحِقُها حدّ التماهي، أم تَكون هي مَن تُطَوِّقه وتَستوطن حواسه الميالة إلى الحلول فيها؟!
أمَّا فتاة جان بابتيست القارئة لرسالة في ضوء شمعة، فإنها تُوَلِّدُ فينا فضولَ التساؤل كما يَنبغي بقارئ خبر إغراءات عُبور جِسر الصورة..
هل هي رسالةُ انتظار تتزامن معها مواساة شمعة؟!
أم هو انتظارُ رسالة يَقتله شيئاً فشيئاً اجترارُ أسرارِ رسالة قديمة تُخفف حُرقةَ الترقب وتُداوي وجعَ الشكّ الحالف ألاَّ يَؤولَ إلى يقين؟!
الفتاة أنثى، والشمعة أنثى.. ولا يَفهم الأنثى سِوى الأنثى، كما لا يَعرف الأنثى غير الأنثى..
إنها قصيدة أنوثة يُصَوِّرُ لنا فيها جان بابتيست سانتير محنةَ الأنثى في عالَم ذُكوري، عالَم أبطالُه ذكور قادرون على أن يَسرقوا فرحةَ العين باستلقاء في سرير الأحلام والناس نِيام..
مَن يَسرق ماسةَ السكينة النادرة غير رَجُلٍ يَختبر بغيابه، أو رحيله، قُدرةَ المرأة على الانتصار على الحُروق بفِعل النار التي تَأكلها على امتداد زمن الغُربة بعيدا عن حضنه، حضن الرجُل ذاك الذي لن تُبَدِّدَ فراقَه رسالةٌ؟!
ماذا ستَفعل رسالة في غياب الكيان الذكوري الحاضِن؟!
وماذا ستَجني فتاة تَنصهِر تحت وطأة التشرذم والشتات؟!
قلبُ الأنثى تَتَبَعْثَرُ قِطَعُه في ظِلّ انفلات قطعةٍ مِن القلب كانت بالأمس أعزَّ ما يُطلَب، ومازالت إلى اليوم.. لكن: هل هو الهجر؟! أم هي الظروف؟! أم هو التنائي؟! أم هو ذاك الحنين الفتَّاك الذي يَسقط عند رصيف الكبرياء؟! أم هو السراب الذي تَتَوَهَّمُه الأنثى ماءً زلالاً يشفي ما ينزّ مِن جروح سَوَّلَ لشيطان زمن الظمإ أن يَنكأَها الغيابُ؟!
الشمعة الحزينة تَذوب، وفي الْمُقابِل نُبصِرُ الأنثى تَذوب..
الشوق محرقة، والليلُ حائطُ مَبْكى لا يَتداعى أمام رِقَّة أنثى تَتَبَدَّدُ حروفُ قصيدتها بفِعل الانصهار الذي تُغَذِّيه النار..
الغياب نار لا تُضاهيها إلا نار الشمعة الواقفة قُبالَةَ الأنثى عاجزةً، لكنها شمعة ناقمة على زمن التَّرَقُّب والانتظار الذي يَبوح بكُلّ ما تُضمِرُه الأنثى مِن أسرار..
الشمعة تَحترق وتَتآكَل، وفي الوقت نَفْسِه تتمادى في اللَّعِب بِسَوط النار التي تَكشف لنا مُحَيَّا الفتاة الْمُضِيء إلى درجة الانصهار..
لَونُ جِلد الفتاة قُبعاتُ رؤوس حروفه تَسقط، وعلامات فرحه تَزول لِتُخَيِّمَ سحابةُ الحزن الثقيلة بحمولتها الْمُقَلِّبَة للمَواجع على جمر الوقت الذي أَقْسَمَ ألاَّ يَمرَّ..
لمساتُ النار تُذْكِي جذوةَ الأنوثة قبل أن يُقبِرَها وهمُ الانتظار.. لا راحل سَيَعُود، ولا غائب سيَشدّ الرحالَ إلى قلعة القلب الْمَنْفِية تلك التي لن تَفتح دفاترَها قراءةُ حكايةِ رسالةٍ مَنْسِية..
النسيان يَجدف بقارب القلب إلى أيام زمن الحُبّ.. تلك الأيام لا تَسقي وُرودَها ذكرى تَضحية ولا بصيص ضوءِ حروفِ رسالةٍ صلاحيتها مُنْتَهِية..
ما أجملَه جان بابتيست سانتير هذا الذي يُلهِب حماسَنا إلى المزيد من القراءة في لوحته هو التَّوَّاق إلى إعادة الاعتبار لذاكرة الترقب!
لا يمكن للقارئ الأَسْيان إلا أن يَنْحَنِيَ إعجاباً بِقُدُرات فَنَّان مِن طراز صاحبِنا جان.. انظروا كيف يُلهِب إحساسَنا بخطوات قدَمَيْه وهُو يَغُورُ في أدغال غابة الأنثى المشتعلة حنيناً إلى زمن الضوء ذاك الذي لن تُحْييه شمعة..
والفتاة الحالِمةُ برحلة عُبور على جسر القلب لا تختلف عن دمعة.. إنها دمعة مَنسية في حديقة الحُبّ الخلفية تلك التي يُصْلَبُ فيها القلبُ على عمود الوجع الْمُنْغَرِس فيها..
ماذا أقول للغائب لو آن له أن يَعود؟!
كيف أُحاكِمُ الزمنَ الهارب بقصة حُبي مِن ذاكرة الخلود؟!
بأيّ أصابع مُرْهَقَة سأكتُب الذي كان وأحاسِبُ حصانَ الزمان؟!
بأيّ عينين كئيبتين سَأُجَدِّدُ العهدَ بما مَضى وغادَر، وبِمَ أُصَبِّرُ قلبا أَقْسَمَ الزمنُ على أن يَقطعَ فيه رأسَ الحُبّ الْمُصادَر؟!..
هكذا يَتساءلُ جان بابتيست سانتير على لسان بطلته الخرساء..
جروحُ الأمس لا تَنْدَمِل، والشمعةُ تَشتعل، وقلبُ الأنثى يَشتعل، يَشتعل جَلْداً تحت قبة الذاكرة الرافضة أن تَموت.. صحيح أن جسدَ الأنثى حاضِرٌ، لكنَّ الرُّوحَ خارج نطاق الْمَلَكُوت..
ليس هناك أكثر مِن يَدَيْن تَقول اللحظة إنهما مُرْتَعِشَتَان، أَضِف إلى ذلك عينين غاربة شمسهما الحالفة ألاَّ تُشْرِقَ إلا في سماء الأمس البعيد..
مَن قال إنَّ المرأةَ لا تَشْقَى؟!
صَدَقَتْ نُبوءتُكَ يا سانتير..
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
05/09/2018
3459