+ A
A -
بادئ ذي بدء.. فإن كلمات الرثاء وعبارات الإنسانية عن الراحل النبيل الأصيل وصاحب القلم الجميل جمال خاشقجي المغدور به، لن تفيه حقه، والعزاء موصول لكل إنسان عربي مسلم وكل من لديه ضمير حي وصاحب رأي حر، في وفاة الإعلامي الوطني الذي سخّر صوته وقلمه لخدمة قضايا بلده، واخلاصا لدينه وعروبته، سواء كان ذلك بالمدح الصادق أو النقد الهادف، فيما بلاده التي تتغنى في وسائل التواصل الاجتماعي باسمها الجديد «#السعودية_العظمى» قد ضاق صدرها وانسد أفقها عن كلماته الناصحة ورؤيته الراجحة، فأرسلوا اليه من يقتله في عقر دارهم لتثبت للعالم من خلال هذه القضية أنها فعلاً «عظمى»، ولكن في الغباء السياسي والمخابراتي والذي أسفر عن كذب بلا خجل وقتل لمواطن استجار بقنصلية بلاده لإتمام معاملة زواجه فخرج بشهادة وفاته.. بانتظار الكشف عن جثته أو رفاته!
«إنّا لله وإنّا اليه راجعون».

ثمانية عشر يوما موجعة تلك التي عشناها متابعين بقلق وترقب للتفاصيل المروعة، مع تواتر بعض التسريبات الأمنية والإعلامية في الصحف التركية والأميركية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتجرح المشاعر، ليس في المنطقة العربية، أو تركيا، بل على مستوى العالم أجمع، الذي وخزت الجريمة النكراء ضميره بقوة، فحركت ساسته ونشطاءه واعلامه.
وحدها كانت السعودية، والإمارة «الأمّارة بالسوء»، التي تقودها الآن، لم يرمش لهما جفن ولم يتحرك لهما ضمير، ولم ينبض لهما ولاعلامهما التافه قلب.
وحدها الرياض ومركز قرارها أبو ظبي، كانتا تعيشان حالة انكار كاملة وساذجة – وربما سافلة – ومتغطرسة.
وكالعادة خرجت الاخبار منتصف الليل وفجر يوم عطلة رسمية، لامتصاص الغضب العالمي المتزايد وللرد على «التسريبات» الإعلامية التي ثبت أنها أكثر صدقية من «البيانات» السعودية!
بيانات الرياض لابد ان نتوقف عندها بشيء من التدقيق. فالشيء الوحيد الذي يمكننا ان نصدقه من تلك الاخبار أنها لم تكن نتيجة تحقيقات شفّافة، وانما هدفها الرئيسي التغطية على الشخص المسؤول والذي اصدر قرار تصفية خاشقجي في القنصلية.
هذا ما قالته وسائل الاعلام الموثوقة والمحترمة والمحترفة، وفي مقدمتها قناة الجزيرة، قبل نحو خمسة عشر يوما، وكررته قيادات عالمية من اوروبا إلى اميركا.. بينما كان الرسميون السعوديون، بدءا من ولي العهد، ومرورا بشقيقه السفير، وصولا إلى قنصلها في اسطنبول، يقولون عكس ذلك على طول الخط.. فولي العهد اكد علنا لقناة بولمبورغ ان خاشقجي خرج من القنصلية بعد انهاء معاملته، خلال دقائق، وشقيقه شدد على نفس الأمر، مضيفا اليه استحالة ان يكون قد حدث شيء في القنصلية دون ان يعلموا به، بينما تبجح القنصل، وفتح باستهزاء وسخف ادراج خزائن القنصلية، وابواب غرفة الكهرباء، لكاميرات إعلامية، ليؤكد عدم وجود جمال خاشقجي في قنصليته، أو بالأحرى «المقصب الدموي»، ومسرح أو مسلخ جريمته الإرهابية البغيضة.
فهل سيصدق العالم والشعب السعودي تحديداً ما سيقوله مسؤولوهم لاحقاً سواء فيما يتعلق بهذه القضية أو في قضايا أخرى.. بعد أن ظهرت هذه الحادثة عدم تحققهم أو حرصهم للوصول للمعلومات الحقيقية فيما وسائل إعلام أجنبية كانت تنشرها بكل موضوعية و«أريحية»؟!
إذن قتل جمال في القنصلية نتيجة «شجار».. سواء بمنشار أو بدون.. السعودية تقر وتعترف، لكن بقية البيان الساذج، يستدعي اسئلة ما زالت تبحث عن إجابات مقنعة تخاطب العقل وليست روايات تافهة، ومنها ما يلي..
الرواية المسرحية تقول إن شجارا وقع وفجأة تطور فأدى إلى وفاة خاشقجي، سننحي العقل ونستخدم النقل مؤقتا للتعامل مع هذه «الفزورة»..
لماذا لم يستدع الأمن لفض «الهوشة» المزعومة، ولماذا لم يطلب الاسعاف فور وقوع الحادث، اذا كان الامر قد تم بكل هذه العفوية والبساطة؟
طبعاً وكانت القنصلية قد استعدت لهذه المواجهة الحاسمة بالتعاقد مع 15 محترفا في مراكز مختلفة، منهم الطبيب الشرعي، ومنهم الحارس الشخصي، ومنهم القاتل الفعلي، لحضور هذه المشاجرة التي تمت بالصدفة!
ولأن المريب يكاد يقول خذوني، فقد خرج بالتوازي مع صدور البيان، من اسمته وكالة رويترز للأنباء مصدر سعودي مسؤول، ليقول إنه تم اختيار، ولابد ان نضع تحت كلمة، اختيار، عشرات الخطوط، سواء بلون الدم الاحمر، أو بلون الجريمة الأسود.. فالاختيار يعني ان الرياض، أو بالاصح قيادتها المطلقة والوحيدة، اختارت شخصا – ماهر المطرب المقرب من محمد بن سلمان – للقاء خاشقجي في القنصلية، وهو ما ينفي ابتداء فرضية مصادفة وقوع الشجار الدموي المميت.
من الاسئلة الواجبة ايضا والتي لا تغيب عن ذهن طالب في المرحلة الابتدائية، سؤال يتعلق بمصير جثة جمال خاشقجي، اين اختفت؟ ومن أخفاها؟ وكيف أخرجها؟
يقول البيان السعودي، إن ثمانية عشر شخصا يخضعون للتحقيق، من بينهم الخمسة عشر الذين سافروا إلى تركيا واغلبهم امنيون من الدائرة المقربة من ولي العهد، وبينهم «جزار» التشريح، صلاح الطبيقي؟..
اذا كان الامر مجرد شجار، فلماذا توقيف هذا العدد وخضوعه للتحقيق؟.. بل ما سبب اقالة نائب رئيس الاستخبارات، وقائد الذباب الإلكتروني سعود القحطاني الذي انتقل إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه ولا على أمثاله.. وهو الذي سبق واعترف علنا انه لا «يقدح» من رأسه وانه مجرد اداة وموظف ينفذ ما يؤمره به الملك وولي العهد؟ مما يجعل ما يقوم به من تصرفات مشمولة بموافقات عليا!
هل تعلمون أنكم بهذه القرارات تثبتون أنها جريمة دولة وليست جريمة أفراد!
واذا كان الامر بهذه البساطة، وانتم بهذه البراءة.. لماذا انكرتم وسخرتم واستهزأتم انتم وتابعوكم طيلة خمسة عشر يوما؟! لم تحترموا فيها أخلاق الإسلام ولا مشاعر أهل الفقيد وذويه..!
الاسئلة أكثر من ان تستوعبها مساحة هذه السطور، ولكن اجمالا فإن كل عبارة من البيان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، تؤكد مجددا على اننا أمام أغبى عملية استخباراتية في التاريخ.. كانت سرية وعرف عنها العالم أجمع.. وإننا أمام رؤية سطحية وسلطة قمعية، اعماها التهور، لا تقيم وزنا للانسان ولا تأبه بحياة البشر.
ثمة نقطة ضوء في نفق تلك الجريمة شديد الظلام، حالك السواد.. انه الاعلام المهني الحر، الذي تقوده وترفع رايته قناة الجزيرة بكل فخر واعتزاز، وهذا ما جعلهم يضعون شرط إغلاقها ضمن مطالبهم البائسة حتى تمر الجرائم بدون «تحري» وتحقيقات وكشف للمتورطين والمتهمين وينعم خفافيش الظلام والقتلة اضافة إلى المستبدين.
لقد انتصرت الجزيرة، في تلك المعركة المهنية والإنسانية وانحازت كعادتها للحق، فدحرت الباطل وكشفت القاتل..
فلم تثنها أموالهم ولا ضغوطاتهم وهاشتاجاتهم، عن الانتصار للمظلوم، فكانت وستبقى خير «شاهد على العصر» تقدم الرأي والرأي الآخر بلاحدود أو قيود..
تبحث عن الخبر وماوراءه «في العمق» أو «تحت المجهر» وتستوعب الجميع باتجاه مباشر أو «معاكس» .. ومازال «للقصة بقية».. و«ماخفي أعظم»!
وفي الوقت الذي كانت تقدم فيه المعلومة الموثقة والتحليل المعمق، كانت وسائل اعلام الظل والطل، تواصل غيها وردحها وانكارها، وتوغل في التضليل، وتقحم قطر في القضية كعادتهم في كل موضوع، رغم أنهم دائماً يقولون «إنها صغيرة جدا»..
ونالت العربية بجدارة لقب «القناة التائهة» من جمهور المتابعين وتحديدا من السعوديين أنفسهم، لأنها في خضم هذه الأزمة الطاحنة وبدلا من الدفاع عن حكومتها العاجزة.. كانت تناقش أسعار طبق الفول المدمس في اليمن.. وتأثير الحوثي على ذلك!!
العهد السعودي الحالي تفاءلنا بقدومه، لكن سرعان ما سلّم رقبته وعقله لإمارة الشر، والتي تدفعه بقوة للهاوية ولم تسجل معه أي موقف في هذه الأزمة الطاحنة وهي التي تملك علاقات دبلوماسية مؤثرة وإعلاما منوعا ومكاتب علاقات عامة مثيرة وسفيرا في واشنطن متمكنا..
ولماذا هذا الصمت المطبق على وزراء الحصار الثرثارين في كل ما يخص قطر والآن يعيشون صمت القبور وهم يرون السعودية العظمى تتعرض للركل من كل الاتجاهات وتترنح لإقناع العالم بأسخف الروايات..!
حتى وزير خارجية السعودية نفسها عادل الجبير فقد النطق وأصبح «أطرم» و«أبكم» في هذه القضية، لم ينطق بحرف واحد، ويبدو أن اللقب الذي رشح له من أحد المتابعين هو المناسب لأدائه في الفترة الماضية وهو وزير خارجية السعودية لـ «شؤون قطر»!
مع ثبوت هذا العمل الإرهابي، المتمثل بـاغتيال خاشقجي بهذا الشكل الإجرامي على طريقة العصابات المارقة، ستكون السعودية انتقلت من القمع والسجن إلى الخطف والتعذيب والقتل، وهذا طريق يقود إلى الجحيم.. والهاوية. وهو أمر وارد بوجود مسؤول مراهق وحليف غدّار وكذاب ومستشاري سوء سطحيين وذباب.
أخيراً..
قال تعالى: «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله»..
بدون أي جهود مضادة أو خطط من قبلنا لإلحاق الأذى بهم أو تدبير المؤامرات عليهم، رغم كل ما فعلوه بأهل قطر على مدار سنة ونصف، لأننا ولله الحمد لم نكن يوماً من الأشرار ولا من الشامتين ولكن هي حكمة رب العالمين.. فمن أرادوا عزلنا هم يعيشون الآن في عزلة عالمية ويواجهون انتقادات وخسائر ومواقف حازمة وعقوبات صادمة وآخرها الانسحابات المتتالية من المؤتمر الاقتصادي «دافوس الصحراء» الذي تعول عليه المملكة لإنعاش مواردها الناشفة واقتصادها المترهل، ليصبح اسمه بعد التعديل «كابوس الصحراء»!
وهذا الحال ينطبق على دول الحصار.. كلها في حسرة وندامة وتراجع أخلاقي وسياسي واقتصادي..
والفائز الوحيد هو «نصور المعجزة» الذي حقق لقب الرجل الحديدي.. تهانينا لـ «غرانديزر العرب»!
وفي الوقت الذي تدير فيه تركيا القضية بإحترافية عالية يسعى ترامب وإدارته لإنقاذ الحكومة السعودية بجلب الكثير من الصفقات وحلب المزيد من الأموال..
موني موني موني.. جوبز جوبز حوبز!!
فمن أراد بنا الشر وكان يختلق الروايات الكاذبة نهاراً جهاراً ويلصقون بنا مزاعم لا أساس لها.. وبإرادة الله ومن حادثة واحدة انكشفوا للعالم.. كذب وإرهاب معاً!

بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
21/10/2018
5587