+ A
A -
الحياة العادلة!
لا شيء أكثر سخافة مِن الحُلم بحياة عادلة! لكن لِنَقُلْ إنها كذبة أخرى يَكذب بها البؤساء والأشقياء على أنفسهم تخفيفا مِن صدمة واقع يُعادِل ضربةَ مطرقة على الرأس..
الحُلم بحياة عادلة وَهْمٌ كبير ما ذَنْبُ الفقير حتى يتعلق بحباله وهو يَعلم علم اليقين أن مقص الظروف يَتَأَهَّب في كل وقت وحين لِيُلحِق به الأذى الذي يُسْقِطُه شَرَّ سَقْطَةٍ مِن حبال التمنّي، فكيف له بالتالي أن يَنتظر منه أن يَرقص ويُغَنّي!
لا رقصة، والحال هذه، سِوى رقصة الموت الذي يَزُفُّ الروحَ إلى موكب السماء، ولا قصائد سَتُفَصَّلُ على مقاس النَّغَم الْمِعْطاء أكثر مِن أبيات الرِّثاء..
لحظةُ الفرح حُلم صعب المنال، والأملُ في غدٍ آخَر لعبة أخرى تُوقِعُكَ في مصيدة الزمن الحالِف أن يُقَصْقِصَ أجنحتَكَ، والوعودُ الكاذبة كثير عليك أن تَجْعَلَ نَفْسَك تُصَدِّقُها كمَنْ يَكذب الكذبةَ، على نفسه قبل الناس، ويُصَدِّقها..
ليس أمامك إلا أن تَتَقَوْقَعَ تحت قُبَّة الصمت الضارب لك فيها الحزنُ مَوْعِدا.. الصمتُ عنوان مَن لا عنوان له، الصمتُ صوت مَن لا صوت له، وفي كثير من الأحيان لا غرابة أن نَقول إن الصمتَ سَوْطُ مَن ما عاد يَكفيه سَوْطُ الزمن ذاك الذي يَجْلِدُ بِلا رحمة..
هذا العالَم الهُلامِيّ هو نَفْسُه الفضاء الذي يُدِيرُ فيه الكاتِب الروسي الْمُتَأَلِّق ماكسيم غوركي MAXIME GORKI قَدَرَ شخصياته الباحثة عن الحرية في زمن القَمع المزدوج، زمن تَحْيِين (ACTUALISATION) البُطولات الفردية الْمُعَطَّلة على الأرض، زمن «الحضيض»..
بين الواقع والحُلم أنفاس خَفِية تَكتبها ذاكرة «الحضيض»، وما «الحضيض» سِوى المسرحية التي دعانا فيها صاحبُها إلى حفلة عشاء في القاع، بعيدا عن صخب اللقاء، حيث لا طاولة مُزَيَّنَة بما تَشتهي عيناك ولا فاكهة مساء..
بين الواقع والحُلم أنفاس هي مُخْتَلَسة مِن فُصول التجربة الْمُرّ فنجانها في عِزّ العتمة تلك، إنها العتمة الطاردة لمعنى الإنسانية مِن قاموس المعاني الكافرة بها رَحَى الثواني..
لِنَقُلْ إنها المعاني التي تُعَوِّل عليها أنتَ الدَّاني مِن بِئْر الحياة السحيقة، وأيّ بئر؟! إنها الحياة تلك التي تَمْتَصُّ ضوءَ عينيك، وتَنتظر منك أن تَنْتَشِيَ زَهْواً وتُراقصها عِشْقاً على إيقاع نغمات «SWAY» لِلْمُدَلَّل دِين مارتن DEAN MARTIN..
نَوْعٌ مختلِف مِن التَّبْئِير (FOCALISATION) يَصنعُه مَسْرَحِيّاً الكبير ماكسيم غوركي الزَّاحف مع كتائب روسيا القَلَمِيَّة إلى مُدن الضوء والحقيقة حيث لا صوت يَعْلُو على صوت مسطرة قانون التَّعَرِّي الكاشِف للتَّمْوِيه والمخاتَلة والزَّيْف..
نَعود إلى حضن ماكسيم غوركي الحالِم في مرآة «الحضيض» بِتَجْنِيدِنا للدفاع عن حَقّ المصالَحة مع نُفوسنا حتى تَتَيَسَّرَ لنا رؤية الأشياء على حقيقتها، بعيدا عن قميص الزَّيْف ذاك الذي يَزهد فيه اللاهِث عاريا خلف الحقيقة التي لا يُؤْمِن بها الضميرُ النائم عما يَحدث في قَبْوِ الذات والمكان..
إنه كوكب ماكسيم غوركي الذي استدرَجَنا إلى «الحضيض»، ماكسيم الذي نَعْرِف حق المعرفة أنه يَحْرِص قَدْرَ الإمكان على رَدْم حُفرة القطيعة بين الرأس والذيل، ها هُوَ يَنْتَشِلُنا مِنْ فوضى الواقع إلى هوامش بعيدة عن مدار البطولة إلا للمَنْبُوذين العابِس قُبَالَتَهُم وَجْهُ الأيام..
شخصيات حضيض ماكسيم غوركي تَبدو مِثل الأيتام الْمُلْقَى بهم في «قَبْو أشبه بالكهف»، هذا هو قبر الظلام الذي صَيَّرَه ماكسيم بَيتا لأبطال مسرحيته، هو بيت قَذِر تَستحي منه النَّفْس التَّوَّاقَة إلى ما يَلَذّ لها ويَطيب، فإذا بوجودها هنالك نَوع مِن التعذيب..
وهل هناك تعذيب أَقْسَى مِن أن يَسْتَلْقِيَ الجسدُ الْمُتْعَب على مصطبة عِوَضَ أن يَعِدَهُ السرير بِفِراش وثير، أو تَفتح الروحُ نوافذَ الروح على ستائر تَبْعَث على الاكتئاب عِوَضَ أن تُدَأوِيَ بلون ومَلْمَس ما يَنبغي أن تُنْسَجَ به مِن حرير!
هل يريد ماكسيم غوركي مِن خلال قِطعته المسرحية «الحضيض» أن يُنْصِفَ أبطالَه الذين تَتَبَرَّأُ منهم البطولةُ في مسرح الواقع؟!
وهل تَكون محاوَلةُ الإنصاف هذه قائمةً على دعوتنا إلى إعادة النظر في خريطة الواقع الْمَبْتُورة ذواتها الْمُتَشَظِّية لِنَرَى في مِرآة الْمُهَمَّشِين ما لا يَقوله لِسان وما لا تَقوله عَيْن؟!
هل هي حِيلة تَدْفَعُنا إلى الانقياد لِسَطْوَة قَدَرٍ مَا كانَ رحيما بِبُؤَسَائِه كما كان يُنْتَظَر؟!
أم هِيَ رغبة في إِزالة الرَّمَد عن العيون، مِن باب التضامن مع كائنات عاثَتْ فيها التَّمَزُّقَات، كمَدْخَل إلى الانعتاق الذي يَكفيها الإيمانُ به إن لم يَطِبْ له أن يَتَحَقَّقَ على أرضها؟!
قد يَطُولُ حَبْلُ الأسئلة، لكنَّ جِسْرَ الخَلاص يَقْصر بقُصور شخصيات مسرحية «الحضيض»، قُصور يتجلى في فَشَلِها في تَرَقُّب قمر مُضِيء يُعِينُها على الْتِمَاسِ شيء مِن التغيير الخَلاق تَفاديا لوطأة ظروف لا تُطَاق..
خُبز أسود، خرق، ألواح خشب، مصابيح بالكاد تُضيء، فرن، ممر ضيق، طلاء يَنهار، قاذورات، سُعال.. حقيقة لا تخرج عن الخيال، لكنها الحقيقة! هذا شيء مما تَقوله الإرشادات المسرحية DIDASCALIES في مقدمة فصول «الحضيض»، إنها التوجيهات التي تساعد الْمُخْرِج بِدِقَّة على تَسْيِيج رُؤْيَتِه ورَسْم الإطار العام لِمَلْعَب الحدث..
أما الشخصيات، فهي مُشَتَّتَة بين الْمَيْل الجارف إلى العَبَث، والانْغِماس في شَهْوَةِ حَلْب غيوم الرومانسية الحالمة الواعِد بها زمنُ الحُبّ، والاحتراق بين جَمْرَتَي السّلّ وشَظَف العيش القاتل بالْمِثْل، والحكمة الناطقة في لحظات تُخَدِّرُكَ فيها الحياة باختيارك..
أنفاس مُهَرَّبَة هِيَ في زمن «الحضيض»، لا يُسْمَح لها حتى بشيء مِن الأوكسيجين ذاك الذي يُحَرِّض رِئَتَيْ الحياة على عدم التَّجَأوُب معها مهما اسْتَعَرَ التحريض.. لكن لا تَنْسَ يا صديقي أن رسالةَ الكاتب، الشاعر بمأساة العيش تحت المطرَقَة، ستَكون حفنة دروس تَقُودُكَ بِثِقَة..
حفنة دروس تُعادِلُ الخبرةَ المستقاة مِن قَلْب مَدْرَسة الحياة يَنثرها ماكسيم غوركي على مَدار نَصّ الحوار، وها هي شخصية «ساتين» تُفْصِح عما بَطَّن فيها ماكسيم غوركي مِن تَأَمُّلات سَتَرَى أنتَ أن مِن غير العَدل ألاَّ تَقِفَ عندها وَقْفَةَ الطامِع في اغتسال تَحْتَ شَلاَّل عُيون الحِكمة:
- ساتين: «كُلّ الأشياء جزء من الإنسان. كُلّ الأشياء مِن أجل الإنسان. الإنسان هو وحده الكائن. وكُلّ ما عَداه هو مِن صُنْع يَدَيْه وعقله. ما أَرْوَعَ الإنســــان! ما أَشـــــَدَّ ما في رَنين هذه الكلمة مِن كِبرياء... الإنسان! لابُدَّ أن يَكون الإنسانُ مَوْضِعَ احترامٍ لا مَوْضِعَ شَفَقَةٍ. فالشَّفَقَة مُهِينة. لابد أن يَكون مُحْتَرَماً» [ماكسيم غوركي «الحضيض»].
- بقلم : د. سعاد درير - كاتبة مغربية
copy short url   نسخ
03/11/2018
3059