+ A
A -
لقد ابتلي الربيع العربي وطحنت شعوبه التي كانت وما زالت وقود ثوراته والدافع الأكبر والوحيد لفاتورته من أموال ومقدرات ودماء، ووجدت تلك الشعوب نفسها محشورة بين مطرقة الثورة المضادة وسندان نخب وفصائل سياسية وإعلامية واقتصادية وحتى حقوقية متدثرة بثوب الثائر ومرتدية قناع المناضل وراح كل من الفريقين يستحوذ على ما تطوله يداه من مقدرات وثروات الشعوب مستغلين الوضع الراهن لأقصى درجة، متمنين استمراريته على ما هو عليه.
الأنظمة لا يعنيها أو يهمها استمرارية الوضع الكارثي الحالي من عدمه فكلما ازدادت السيولة وعدم الاستقرار فهذا كفيل وضامن ليجرف في طريقه أي متطلبات أو مسؤوليات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويبعث برسالة للشعوب ها هي النتيجة لو فكرتم في الثورة مرة أخرى، فالوضع غير مستقر ولا بد من إرجاء مطالب الحقوق والحريات العامة وحقوق الإنسان حتى يستقر الأمر ونفرض سيطرتنا وعليك أيها الكفيل «غربيًا كنت أو شرقيًا» أن تمدنا بالأسلحة والأموال ومنحنا الغطاء السياسي اللازم حتى نتمكن من استمرارية وفرض النظام الحاكم الذي يخدم مصالحك وأجندتك واستراتيجيتك ويرسخ نفوذك ويحفظ حقوقك ونصيبك من الثروات والمقدرات التي ستضمن لنا أن نفي بما ساعدتنا وأمددتنا به من قروض وصفقات تسليح وخلافه، فلو رحلنا وتمت إزاحتنا فقد ضاع استثمارك وذهبت أموالك بلا رجعة، فالقاعدة التاريخية تقول الثورة تَجُبْ أي تقطع ما قبلها.
أما غالبية المعارضة أو من تقوم بتمثيل أنها معارضة وتتحدث باسم الشعوب وتتصدر المشهد وتقدم نفسها على أنها الطرف الآخر للمعادلة المقابل للأنظمة من مصلحتها استمرارية الوضع ومراوحته في مكانه، فلو أقصيت تلك الأنظمة وعادت الكلمة الفصل للشعوب الثائرة فسينتهي دورها حتماً فلقد انكشفت كل الأقنعة أو كادت وظهر بما لا يقبل الشك أن الكثيرين من متصدري صفوف المشهد السياسي من المعارضة ما هم إلا جامعو مكاسب وثروات عبر المتاجرة بالثورات، يحدث هذا بينما الثوار الحقيقيون إما تحت الثرى أو منفيين أو مغيبين خلف قضبان المعتقلات أو تم استبعادهم وتهميشهم والدفع بهم لخلفية المشهد، فالثائر الحقيقي لا يعرف أو يتقن فنون المساومة على المبادئ والحقوق ولا يستسيغ منطقية الحلول الوسط ويعلم علم اليقين أن الحل الوسط دائمًا ما يكون الرابح فيه من يمتلك قوة المال والسلاح بشتى أنواعه «إعلامي واقتصادي وعسكري» والظهير السياسي «داخليًا وخارجيًا» ومستنداً على حليف يمده بأسباب ووسائل الاستمرارية في النضال والوصول لنهاية الطريق.
لكن لا يمكننا إغفال حقيقة أن هناك البعض من النخب انحازت لأحلام الشعوب وتبذل قصارى جهدها لإيصال صوتها والتعبير عن أمنياتها وتطلعاتها، مقاومةً كل الإغراءات متحملة شظف الحياة ووحشة المنفى حتى لا تنحرف عن الطريق وتلحق بركب التجار وعاقدي الصفقات على أوراق الربيع العربي وموقعين بحبر مداده من دماء الثوار والشعوب وتلك هي أسباب استبعادهم وتهميشهم.
التاريخ يعيد ويكرر نفسه وتبقى الحقيقة الخالدة واليقينية والثابتة أن الشعوب باقية والأنظمة تتبدل وتتغير، ويبقى الشعب هو الحكم والطرف الأقوى في المعادلة مهما حاولت كل أو معظم الأطراف تحييده، الثورات تخلق قادتها وتفرز نخبها وتفرض سيطرتها في النهاية وستذهب إلى الصفحات السوداء من كتب التاريخ كل تلك الأنظمة الفاسدة والنخب المستأجرة، فالتاريخ كما الشعوب لا يرحم المتآمرين والخونة والمتخاذلين، قد يكتب المنتصرون التاريخ لكن الشعوب هي من تقرر صدقه من كذبه، فما لا تتضمنه ذاكرة التاريخ تختزنه عقول الشعوب ويتوارثه الأبناء والأحفاد، فكم من أنظمة ونخب مجدتها صفحات كتب التاريخ ولعنتها قلوب وضمائر الشعوب قبل ألسنتها.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
18/01/2019
1503