+ A
A -
بعيداً عن التحديدات التي لا تُميت ولا تَبعث على الحياة، بعيداً عن فستان الرومانسية الحالِم الذي يُوقِظ الماردَ النائم داخل سروال الرجولة ويُذيبُ كتلةَ الأنوثة فوق مجمر الإحساس كما تَذوب قطعة شوكولا، نَقفز مِن نافذة التذوق بِعَين فنية لنَسبح بين سطور الألوان بحثاً عن لؤلؤ المضمون وتنقيباً عن الرسالة الخفية تحت الزرابي التي تنسجها الريشة الشقية وحتى في قَلْب الأقبية.
لِنَقُلْ إنها الأقبية التي تَسْتَدْرِجُنا إليها الريشة الْفَتِيَّة تلك التي تُراوِدنا عن نفوسنا لتَغوص بنا حَدّ الغرق في أعماق النفس الإنسانية لِمَن صَيَّرَ الريشةَ سيدتَه وفَتاتَه هِيَ هِيَ التي تُحَلِّي حياتَه.
الريشة حياة، وغواية الريشة حياة ثانية لا تَتركنا إلا بعد أن تُبَلِّلَنا نشوةً، ففي تَسَلُّق حِبال الريشة وفي صُعود نخلة الريشة تَحْلُو الأوقات، وفي جَنْيِ بَلَحِها الوجهُ المليح الذي تَبتسم له الحياة.
الحياة !
صَالَ وجَالَ الفنانون على امتداد رحلات تصويرهم الفني لهذه الحياة، وفي كل مَرّة يَكتشفون لها معنى لذيذاً رغم طَعْمِها الْمُرّ والحارّ الذي لا يُشَجِّع فيها على الاستقرار..
الحياة هذه تَغْدُو مالحة، مالحة هي كبَحر الرغبة في مَدِّ حبلِ وصالها، لكن لِمَن تَقول «يا حياة!»..
فلسفة الحياة يَطول شرحُها، لكنك لنْ تَخرج بنتيجة مُرْضِية، فالحياة كالطريق الذي يَقودك إلى جدار، تَركض أنتَ وتَركض، لكنك لن تَعود، وإذا عُدْتَ فتأكَّدْ أنك ستَحمل بين يديكَ قلبكَ المنهار، إنه قلبك الباكي الذي لن يَهْنَأَ له السَّكَنُ عَبْرَ خطّ الكشف والتجلي في مملكة الأسرار..
في مربع الحياة الماثل في مرآة اللوحات، نَجِدُ أبطالَ لوحات الفنان الأميركي إدوارد هوبر Edward Hopper تَأكلهم العزلةُ، فبِهِمْ يَتَوَسَّلُ هو ليَرسم ملامح وجوهٍ غابَتْ عنها الحياةُ إلا تلك التي تَقوم مع وقف التنفيذ، عزلة تَنهشهم وتَنخرهم وتَكتب سُطورَ غُرْبَتِهم على أسوارِ مَدِينةٍ تَضرب بالْمَدَنِيّة عرض الحائط..
إنها المدينة أو السِّجن الكبير الذي يَزجّ بنا جميعاً في داخله، سجن بلا قضبان يُسمِّم أرواحَنا الْمُتْعَبَة ويَخِزُنا وَخْزَ شوكةٍ متمردةٍ، وأكثر مِن هذا فإنه يُدمِي قلوبَنا المتعطِّشة إلى شيء مِن رحيق الحياة في أحضان بستان المحبة..
بِدون محبة تَموت أوراق الحياة..
إنها الحياة !
وعن هذه الحياة تتحدث لوحات ولوحات..
الفنان الفرنسي بول سيزان Paul Cézanne في لوحته «لاعبو الورق» «Les Joueurs de cartes» يُصَوِّرُ لنا الحياةَ في صورة لعبة، صحيح أن مِن السخافة أن نَنْحَدِرَ بمفهوم الحياة إلى مُنْعَرَجات اللَّعِب والتسلية، لكنها الرؤية الخاصة للفنان بول سيزان الذي وَجَدَ مِن العَبث ألا يَكشف مضمون العبث، ولا غرابة أنَّ أعلى مستوى للعبث تُجَسِّده الحياة.
لوحة بول سيزان الشهيرة بطلاها لاعبان (على أن هناك أكثر مِن لاعِبَين اثنين في غير هذه اللوحة التي نُقاربها في مرآة القراءة العاشقة وبعيون تَقْبَل التَّحَدِّي)..
الفنان بول سيزان يَرصد بإتقان رحلةَ الكتابة بالألوان، ولا شكّ في أن هذه الرحلة تَبدأ بفكرة.. هنا سيَتأكد لنا أن كُلّ قلقِ بول سيزان الفكري يَصُبُّ في قالَب واحد: إنه العبث..
في عينَيْ بول سيزان تَأَكَّدْ يا صديقي أن الحياةَ ستَصِير قاعةَ انتظار، الحياة قاعةُ انتظار، وهي بالْمِثل حالةُ ترقُّب، الحياة حالة تَرَقُّب مُزْمِنَة.. الحياة لعبة، لكنها لا تَنتهي إلا بنهايتك، وقبل زمن النهاية لا يُعْرَفُ مَن الخاسِر ولا مَن الرابح.
في لوحة لاعبي الورق تصوير دقيق للملامح برؤية تجريدية، لهذا تُقَدِّم هذه اللوحة نفسَها (وكذلك في غير هذه اللوحة) على أنها بِئر سحيقة يَجري فيها الغموض مجرى العَين، لأن ما يَقوله فيها بول سيزان إيحاءً غير ما يَقوله البطلان تصريحاً.
لوحات بول سيزان ستَكون بالتالي شاهدة على قفزة نوعية إلى حقل التجريدية على مستوى البناء الفني، ومِن هنا سيَختزن سيزان في هذه اللوحات مِن المعنى ما لا تُفْضِي إليه الدوالّ بشكل مباشر، ولكلّ دالّ ذيل من المدلولات الخفية..
صاحبُنا بول سيزان هو ذاك الهارب مِن تهديدات مسطرة القانون وبروتوكولات معطف المحاماة الثقيل إلى الفضاء الطلق على امتداد رُؤاه الفنية التي يُصَوِّر فيها الحياةَ بقلم غير جافّ، قلم تشكيلي هُوَ..
لكن هل مِن السهولة أن يُقْدِمَ إنسان على تَعْلِيق مصيرِه؟!
هذا ما لا يَفعله إلا فنان..
ولَعَلَّ بعض لوحات بول سيزان تُضِيءُ شيئاً مِن هذا الجانب، فتَكفي نظرة مُتَأَمِّلَة في لوحة «المنزل الْمُعَلَّق» أو لوحة «طبيعة صامتة» لنَزحفَ زحفاً إلى دواخل الفنان الذي لن يَسَعَهُ أن يَحجب عنا تفاصيل عُلبته السوداء ما دامَت الريشة ناطقة..
لوحة بول سيزان (لاعبا الورق) يَختزل فيها وعَبْرَها الفنانُ شُعْلَةَ ذكائه في ترجمة الحياة إلى رموز. عالَمُنا الكبير يُحَوِّلُه بول سيزان بذكاءٍ إلى حياة صغيرة، وهي يَقيناً حياة صغيرة تَتَحَدَّدُ ببدايةِ ونهايةِ لعبةِ ورقٍ..
الحياة عند بول سيزان لعبةُ ورقٍ، فمَن الرابح؟! ومَن الخاسر؟!
هل هي الحياة مُجَرَّد رِهان؟!
أم هي الحياة مغامرة؟!
أم أنها لا تَخرج عن ضربةِ حَظٍّ هذه الحياة؟!
الحِسّ الساخر عند بول سيزان هذا الذي تُتَرْجِمُه لوحتُه «لاعِبا الورق» نَجِدُ ما يُقابله بأَرْيَحِية، إنها الرؤية التصويرية البليغة لإدوارد هوبر وهو يُجَسِّدُ وطأةَ الإحساس تحت حِذاء الميكانيكية التي تَدعس الروح بقلبٍ ميِّت وتَرسم الوجهَ البَشِعَ للواقعية..
واقعية إدوارد هوبر لا تختلف عن عَزْفٍ على وَتر حزين، لكنه عزفٌ كافٍ للقيام بدَور الفضح والتَّعْرِية للحياة الآلية التي يَضْرِبُها جفافُ المشاعر مُوازاةً مع انكسار حوض الرومانسية التي ما عادَتْ تُشَجِّعُ على ممارَسةٍ عاطفية يَطيبُ فيها لعصفور القلب أن يَتَغَزَّلَ بالأُذن التي تَهِيج فيها أمواجُ النَّشْوَة حدّ أن تَضربَ الروحَ ضربةَ تسونامي تَنْحَنِي فيه جِبالُ التَّرَقُّب لِبَحر اللذَّة الْمُشْتَهاة..
في لوحة «القاطرة»، يُجَسِّدُ لنا إدوارد هوبر الحياةَ في صورةِ آلة، إنها آلة ساخطة ولا تَعرف إلى الرحمة طريقا، فمُهِمَّتُها الأولى والأخيرة هي سَحْقُ الإنسان وطَحْنُه وقَطْعُ رأسِ إحساسِه ولَيُّ أعناقِ أنفاسِه..
لوحة «القاطرة» يُخَيِّمُ عليها اللون الأسود الهارب مِن الزمن الجميل في غير عُيون أَهْلِه، تَتَرَاءى لنا اللوحة كسحابةِ شتاءٍ لا تُمطر ماء. اللونان الأسود والأبيض يَقولان ما لا تَقوله أصابع فنان لا يَكفر بِدِين الألوان.. خلافاً لـ«القاطرة» الحزينة، لا يُضْمِر إدوارد هوبر مشاعرَه الدفينة وهو يَبوح عند رصيفِ فلسفةِ الألوان بما يَقْهَر قلبَ الإنسان..
إنه الإنسان الْمُعَذَّب ذاك الذي تَجَسَّدَ شاخِصاً في صورة بطلة لوحة «المطعم الآلي» التي تُعَرِّي شيئاً مِن غربة الإنسان في حياةٍ ما عاد أصحابهُا يَجِدُون فيها الوقتَ لمنديل العاطفة الذي يَمْتَصُّ وحشةَ اللحظات ولا لِيَدٍ طاهرةٍ تُعيدُ الأملَ في الحياة..
الحرمان بطل سباق «رالي» الانفعالات، والمرأة المسكينة بطلة اللوحة (الموحية بصرخة الإنسان الحزينة) تَسْتَنْزِفُها مَتاهةُ الوقت العابث بما هُوَ ماضٍ وما هُوَ آتٍ..
ألوان «المطعم الآلي» لإدوارد هوبر يَغْشاها ظلام ما فَتِئَ يُؤَكِّدُ حضوره بِقُوة لِيَتَسَيَّدَ الْمَشهَد حاجباً قُمصان الألوان تِلك التي اضطلعَتْ بدَورٍ ثانوي في ظِلّ الكلمة الأولى لـلأَسْوَد الذي يَليق بكَ..
ما جَدوى التزيُّن والتأنُّق والتأهُّب والاستعداد لِلقاءٍ لنْ يَعِدَ بِمَوْعِد، فالطاولة الحزينة مِن أَيْنَ لها بِمَنْ يَنفض عنها غبارَ الوقت الجاحد، والكرسي الفارغ قُبَالَةَ البطلة يَلعن ثِقَتَهُ العمياء في مُؤَخِّرةٍ تَأْبَى أنْ تَرْتَمِيَ فوقَه مُسْتَسْلِمةً لِحُمَّى اللقاء.. هكذا تَقولُ بلسانِ البُؤس لوحةُ «المطعم الآلي»..
أما بول سيزان، فهو يَقْلِبُ طاولةَ الحياة على مَن يُؤْمِن بالحياة، لهذا لنْ تَجدَ في لوحتِه بُطولةً لغير الغليُون وقِنِّينة الخمر والوَرَق وملامح أَنْهَكَها الترقُّبُ لِلاعِبَيْن تَسْتَقِرُّ نظراتهما الْمُتَرَنِّحَة عِنْدَ فاصِل لا يَعِدُكَ بأنْ تُواصِل..
أَهِيَ دهشة البدايات تُفَصِّلُ النظرات على مقاس لا يُرْضِيكَ فيه قَدَرُكَ؟!
أمْ هِيَ بداية النهاية لِمَوْتَى ما زالُوا يُعاقِرون كأسَ الحياة طَمَعاً في قُبُلات مُهَرَّبَة تَعقد مُصالَحَتَهم مع الفَرَح غير الْمُتَسَلِّل إلى جُيوب القَلْب الْخَفِية في لحظات مَنْسِية؟!
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
19/01/2019
2836