+ A
A -
كان أول شريط كاسيت قد أُرْسِلَ إلىَّ من باب الهدية، إن لم تخني الذاكرة الشقية، يَحمل توقيع الفرنسي جاك بريل Jacques Brel، ذاك الفنان الذي يَتَصَبَّب إحساسا، وكان عنوانه «لا تتركيني Ne me quitte pas»، إنها تلك القطعة الخالدة التي أثارت ضجة حتى بعد موت صاحبها عام 1978..
فنانٌ ثروتُه إحساسُه، وسلاحُه حُبّ الجماهير له، كيف له أن يَسقط من ذاكرة الملايين هو الذي تفنن في الغناء عن الحُبّ وأجاد اصطياد الدمعة في أحداق العُشّاق؟!
إنه بطبيعة الحال جاك بريل البلجيكي الأصل، جاك بريل الذي أتيح له أن يَبني صرحه الفني على مسارح فرنسا هو مالك الصوت الحالِم الذي يدغدغ جنبات النائم..
49 سنة من الْمُضِيّ بأنفاس حافية على سكة الحياة لا توازيها سوى رحلةِ مَجْدٍ فني صنعه صاحبُه جاك بريل الخبير بأذواق الناس وإبداع ما يَطلبه الإحساس.. ورغم بساطة القالَب الذي يَصبّ فيه جاك بريل عصارةَ إحساسِه، فإن القلبَ يُفَصِّل ثوبَ البوح على مقاس السهل الممتنِع..
لهذا عشش جاك بريل في شجرة الوعي الجمعي، بل أكثر من هذا فإن صاحبنا جاك بريل عاش في ذاكرة المتلقي أكثر مما توفر من سنوات عمره على قيد الحياة، لماذا؟! لا لشيء سوى أن الفنان الحقيقي يُرَبِّي فينا الشعور بالعالَم كما لم نَشعر به من قبل، ومن هنا فإن فنانا كهذا لا يموت كما يموت الآخَرون، فَرُوحه تَظلّ باقية، وكلما تقدَّمَ ذيلُ الزمن تَمَدَّدَتْ جذور روحِه لتترسخ في أرض وِجداننا..
لِنَقُلْ إنه شيخُهم جاك بريل، وبما أنه الشيخ، فلا غرابة أن يَكون له مُريدون، هُم، هُم ليسوا غير رجال ونساء ظَلُّوا به يهتفون وباتوا بأغانيه يَهْذُون، كيف لا وهو الرقيق الحسّاس يكتب الكلمات ويلحن ويؤدي بصوت يتسلل إلى القلوب الْمُصَفِّقَة لحزنه، فحتى في ذروة الحزن قد نَتَلَذَّذ ونحن نعيش مع الفنان محنةَ الإنسان، نعيشها معه بكل جوارحنا وهو يَفتح لنا أكثر من نافذة بدعوتنا إلى إنصاتنا له..
لِنُعَأيِنْ هذه الباقة مِن الكلمات وهو الفنان بِحِسّه الأسيان (جاك بريل) يُرَصِّع قَفاطينَها بهوى مناجاة الجروح في ليل الرغبة المستلقية في بحر الروح:
===
«Ne me quitte pas
لا تتركيني
Il faut oublier
علينا أن ننسى
Tout peut s›oublier
كل شيء يُنسى
Qui s›enfuit déjà
ما بدأ يهرب
Oublier le temps
ننسى الوقت
Des malentendus et le temps perdu
ننسى سوء التفاهم والزمن الضائع
A savoir comment oublier ces heures
لنعرف كيف ننسى هذه الساعات
Qui tuaient parfois à coups de pourquoi le cœur du bonheur
التي تقتل أحيانا قلب السعادة من كثرة»لماذا؟«
Ne me quitte pas
لا تتركيني
Moi je t›offrirai des perles de pluie
سأهديكِ أنا لآلئ المطر
Venues de pays où il ne pleut pas
الآتية من بلاد لا تمطر لها سماء
Je creuserai la terre jusqu›après ma mort
سأحفر الأرض إلى ما بعد موتي
Pour couvrir ton corps d›or et de lumière
لأغطي جسدكِ الذهبي والنوراني
Je ferai un domaine où l›amour sera roi
سأنشئ مملكة يَكون الحُبّ مَلِكُها
Où l›amour sera loi, où tu seras reine
يكون الحُب قانونُها، وتكونين أنتِ الملِكة
Ne me quitte pas
لا تتركيني
Je t›inventerai des mots insensés que tu comprendras
سأخترع لك كلمات مبهَمة ستفهمينها
Je te parlerai de ces amants la
Qui ont vu deux fois leurs cœurs s›embraser
سأحدثك عن هذين العاشقين اللذين شاهدا قلبيهما يحترقان مرتين
Je te raconterai l›histoire de ce roi mort
De n›avoir pas pu te rencontrer
سأحكي لك حكاية الملِك الذي مات حسرة لأنه لم يلتق بكِ
Ne me quitte pas
لا تتركيني
On a vu souvent rejaillir le feu d›un ancien volcan
Qu›on croyait trop vieux
كثيرا ما كنا نرى تدفق نيران بركان كنا نعتقده ميتا
Il est paraît-il
des terres brûlées
donnant plus de blé
Qu›un meilleur avril
ويبدو أن الأراضي المحترقة تعطي القمح أكثر من أي أبريل
Et quand vient le soir
وعندما يأتي المساء
Pour qu›un ciel flamboie
وتشتعل السماء
Le rouge et le noir ne sݎpousent-ils pas?
ألا يتناغم الأحمر والأسود؟
Ne me quitte pas
لا تتركيني
Je ne vais plus pleurer je ne vais plus parler
لن أبكي بعد الآن ولن أتكلم
Je me cacherai là
سأختبئ هناك
A te regarder danser et sourire et A tݎcouter chanter et puis rire
لأراك ترقصين وتبتسمين وأسمعك تغنين ثم تضحكين
Laisse-moi devenir l›ombre de ton ombre
دعيني أصبح خيالَ ظلِّكِ
L›ombre de ta main
ظلّ يَدِكِ
L›ombre de ton chien
ظلَّ كلبكِ المخلِص
Ne me quitte pas
لا تتركيني»
===
بين الشجن واللهفة مساحةُ صوتٍ هي نفسها ما بين الرعشة والفرحة، وبين الألم والأمل مسافةُ انتظار هي نفسها ما بين الدمعة والإيمان.. الإيمان بالحُبّ، الإيمان بنشيد الرغبة، الإيمان بمطر اليقين..
لم يَكن مِن السهل على مُحِبِّي جاك بريل أن يتقبَّلوا خبر موته بعد أن أبعدته عنهم إصابته بالسرطان مسافات ومسافات.. إنه السرطان اللعين الذي كان سببا في موته ودفعه إلى إغلاق نافذة شرفته المشرعة على أشواك الحياة وسياج الحزن..
رحلتَ يا جاك بريل، رحلتَ يا رقيقَهم، يا شيخَ الكلمات، وتركتَ لهم ثُغاء الساعات..
فكيف لِمُريدِيكَ أن يَتركوكَ وقد تَهَيَّأوا لملاقاةِ ظِلِّكَ الْمَارّ مِن هناك في مَعْبَد الصوت، وعند رصيف الكلمة يَنحني حذاءُ الوفاء إجلالا لصلاةِ غِياب..؟!
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
09/03/2019
2436