+ A
A -
بقلم
د.سعاد درير
كاتبة مغربية
بين القدمَين والحَجَر الأمَّار بتعثُّر، وانكسار، ما بين الروح وباب النار. إنها الدرجة الصفر للاختيار تلك التي معها فقط يَتهالَكُ الجسد عند عتبة اللاحياة واللاموت..
طبعا ليس مِن العدل ولا مِن الحكمة أن نَغرس بُذور الإحساس بالتشاؤم في تلقياتنا القارئة لذاكرة جِدار يزحف زحفا متعطشا للقفز مِن نافذة اللامكان واللازمان، ناسيا أو متناسيا وطأة الواقع..
إنه واقع لا يَشهد أن قلبا مُبْعَدا عن أسرة الإنسانية أجبره قَدَرُه على أن يُصْلَبَ حَيّاً، ومِن ثمة يَذرف هو مِن الدموع ما لا عين تَراه ولا قلوب تتوجع لوجعه ذاك الذي يُصَيِّرُ ملامحه قاسية وصارمة كواجهة سفينة تَعبر قارات الألم..
أَمُدُّ إليكَ يَدِي يا صديقي لنَقطع جسرَ المعاناة الممتد على نهر المأساة، إنها المأساة القابعة في قلب المكسيك، مأساة نُطِلّ عليها مِن نافذة التأمل المشرعة على جُرح تَعَوَّدَ على أن تَنْكَأَه الأصابع الشقية بعيون غربية، وها أنا أَمُدُّ إليك يَدِي على أمل أن نُرَطِّبَ الجُرح معا..
مَشهدُ جُرح نُرَطِّبُه لا غرابة أن يَعني لك بطريقة أخرى درسا يُلتَقَط وحكمة ليس مِن الضروري أن تَحلبها في حقول الْمَدرسة، لماذا يا صديقي؟! لأن أهَمّ مدرسة يتخرج منها آخِر فوج مِن الحكماء والفلاسفة والخُبراء وأهل المنطق لن تكون شيئا آخَر غير مَدرسة الحياة..
الجُرح الكبير صَدِّقْ يا صديقي أنه جُرح الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو Frida Kahlo، وما فريدا كاهلو سوى واحدة مِن كثيرات مِمَّنْ تَقَلَّبْنَ في مجمر المكابدة وامتحَنَتْهُنّ الحياة بما لا نهاية مِن أشكال المعاناة..
فريدا كاهلو قاسَتْ كما لم تُقاسِ امرأة موهوبة.. اختبرَتْها الأوجاع وقَلَّما وجدَتْ عندها الاستسلام والانصياع، بل أكثر مِن هذا وقفَتْ للألم صاحِبَتُنا كالسَّد المنيع، إنه ذاك الذي يَصمد في وجه الزمن، يَصمد لضربات الزمن، يصمد للمِحَن ولا يُطِيع..
مقالِب بالجملة شَربتها فريدا كاهلو مُكْرَهة، أولها (وليس أكثرها قسوة) يتجلى في إصابتها بشلل الأطفال ذاك الذي حكم على قدميها باللامساواة، فباتت القدم الواحدة أقصر من الأخرى وأقل تكافؤا على مستوى الحجم والوقفة..
قد تتفهم يا صديقي خصوصية الوضع بالنسبة لأيّ إنسان، لكن ما قولك وأنت في حضرة سيدة الإحساس تِلك التي كانت تَذوب قبالتها الألوان لترسم بإتقان كما لا يُبدِع فنان؟!
إنها المرأة، والمرأة كائن مُلْهَم، هي كائن حساس، كائن هي لا يُجَرِّدُه موجُ بحر الزمن مِن غلالته الشفافة تِلك التي تَقول كل شيء، وتأتي فريدا كاهلو لِتُعَلِّمَ نساء اليوم شيئا مِن كيمياء الأنوثة الصامدة في غير موسم الصمود..
امرأة مِن عينة فريدا كاهلو لا شَكَّ في أنها ستُدِير رَحى حرب المواجَهة باقتدار، لذلك لم يكن مِن غير الطبيعي أن تَبتلع فريدا كاهلو مقالب الزمن تباعا، كانت المسكينة تَقِف كجِدار للمطبّات الزاحفة إليها زحف إعصار..
فما بالك يا صديقي (والحال هذه) أن يَسقط فستانُ التحدي أو يَنفلت نازلا سروالُ المكابرة الداخلي ذاك الذي تتمدد له أَذْرُع وأيادٍ تخدش مرآة النفْس غير المطمئنة لحقيبة انتظار تَعِدُ بمستقبل على حافة الانفجار!
أبواب الخيانة لن تبقى موصدة، الخيانة جارحة، وقاسية، ومذاقها مُرّ، وها هو الزوج الوحيد دييغو ريفيرا Diego Rivera الذي بادلَتْه فريدا كاهلو متعة الإحساس الفني يقفز مِن شرفة البحث عن أنفاس جديدة تضخ الحياة المؤجَّلة في جثة الزواج الهامدة بعد ذبول ربيع الحُبّ الذي كان..
دييغو ريفيرا (المتقدم في العمر) يَغرز حقنته السامة في جسد امرأة أنهَكَتْها الأشواك الواعدة بغير الورد، دييغو ريفيرا أَحَبَّ فريدا كاهلو، وما كانت في عينيه فريدا كاهلو غير البطلة الخفِية لمسرح لوحات الفنانة هذه التي جَسَّدَتْ رسماً كل الانتهاكات التي طالَتْ روحَ أنثى..
إنها فريدا كاهلو، إنها الأنثى القاسية على نفسها إن لم تُجارِها هي الأخرى في سياسة التحدي والركض خلف المِزاج الذي لا تمحوه انتفاضة الرمال الموعودة بقُبلة الأمواج..
لِنَقُلْ إنها رمال الواقع، ولْنَقُلْ بالْمِثْل إنها أمواج القَدَر الْمُهَرْوِل إلى ساحة ملعب الحياة تَوَّاقا إلى تسجيل أهدافٍ في مرمى البشرية..
عن الألم الظاهِر والمضمَر، عن مسامير الخوف المزروعة في طريق الروح، عن القلب المجروح، عن طائر الحُب المذبوح، عن الرغبات المستعصي وصولها إلى معطف الدفء، عن الأمان الغائب، عن القسوة، عن ألفَم العاجز عن البوح إلا على لسان الصبغات، عن ذيل مِن المشاعر المجْتَرَّة لفَتيل المواجع تحكي لك فريدا كاهلو بلغات ألفُرشاة..
فهل كانت فريدا كاهلو لتتقوقع في حُجرة حياتها المظلم مصباحها وهي عاجزة عن التخطيط للضربة المضادَّة؟!
مِن المؤكد لا يا صديقي، فهي رغم قصور ساقيها كانت ترَكل، ورغم عنفوان أنوثتها كانت تَصدمك بهوامش الحق في الرد وإعادة تسديد الكرة..
لم تكن فريدا كاهلو لتحتفظ بالصمت، وكلما بَطشَتْ بها يَدُ الزمن نَجِدُ يَدَها منشغلة بالتحضير لمفاجأة قد لا تَجِد أنتَ أمامَها إلا أن تَستغرب، لكنها تشجعك على أن تَضرب وتَضرب..
حتى الخيانة تُرَدُّ لها صفعة.. ولا تَحسب يا صديقي أن ما أصيبت به فريدا كاهلو من نكبات صحية قد يُعفيها من ممارسة حقها في الولاء لدِين الحُبّ، مع أنه العشق الممنوع الذي لا تَضبطه ضوابط ولا تحكمه مرتَكزات..
هكذا صنعَتْ فريدا كاهلو بنفسها بعد أن فتحَت الباب لتتسلق نخلة الجنون تحت سماء الغواية موقِعةً في شراكها بقدمَيْ رَجُلٍ لم يكن غير صديق زوجها دييغو ريفيرا..
فهل هو العبث أم «العَين بالعَين» أم اللهو والتسلية في ظل وطأة الظروف الصحية ما شَجَّع فريدا كاهلو على الانتصار لرغبة رَجُل مارّ؟!
هل هو حطب الحُبّ، ذاك الحطب البارد، ما عاد يُغري باشتعال علاقتها الزوجية بتوأم روحها الفنية دييغو ريفيرا؟!
هل هو التمرد ما كان يَدفعها إلى البحث عن مُتَنَفَّس للخروج عن النص الذي تُمليه الحياة؟!
ما أَطْوَلَ ليلَ الاحتمال!
وما أَبْعَدَ فجرَ الحقيقة عن عيون لا تَنام!
لكن لِنَتَّفِقْ يا صديقي على أن حياة فريدا كاهلو الشخصية تِلك التي كانت تُؤذن بانطفاءٍ لم يَكُن يوازيها إلا اشتعال مِن نوع آخَر قادَه إليها الحظُّ الذي أقسَم أن يَجعل مِن تجربتها الفنية تجربة متميزة تَضع منها رائدة متألقة الإحساس الفني أنيقة اللغة، وما لغة الفن غير ما تُصادق عليه خطوطه وألوانه من المعاني..
ولأنها فريدا كاهلو التي تَحَوَّلَ بيتُها إلى متحف يُعيد ترتيب قِطَع قصة حياتها الفنية بما حَفرَتْه مِن لوحات، يَحجّ إليها الباحثون عن تاريخ النشوة الفنية ليُعيدوا كتابة سيرة الفنانة، مَن يُصدِّق أن رُوحها مِن تحت الثرى مازالَتْ تُوَزِّع بطاقات الدعوة إلى ذلك البيت الذي عايش من الحزن ما لا يَقوى قلب على تحمله..
ألا يَكفي أن فريدا كاهلو ظلَّتْ لوقت طويل تعاني من مشاكل في الرئة عَجَّلَت بقطع رأس الروح تلك التي غادَرَت قبل أن تتجاوز صلاحية الجسد سنوات الأربعين؟!
ألا يَكفي أن فريدا كاهلو تحمَّلَتْ أن يَتمّ بَتْر قدمها إلى مستوى الركبة بعد أن نال منها مرض «الغرغرينا» ذاك الذي يُفْضِي إلى موت الأنسجة حَدّ تَعَفُّن أطراف الجسد واسوِدادها نتيجة ضعف تدفُّق الدم إليها أو تَعرُّضها لعدوى بكتيرية؟!
إنه الإيمان بروح الفنّ رغم عنف الحياة..
وإنها الحياة السوريالية الطّعم تَنزل بكُلّ ثقلها لِيُحَدِّدَها إطار اللوحة الناطقة بالحُزن ذاك المنعكس فيها انعكاسا مرآوِيا..
فهل كان موتُ فريدا كاهلو بداية تَسوية لملفّ المعاناة عبر الانتقال إلى عالَم آخَر لا يَشوبه عُنف؟!
أم تراك يا صديقي تَضُمُّ صوتك إلى أكثر مِن صوت رَجَّحَ الحقيقة القائلة إنها ضربة انتحار تلك التي فَصَلَت الروح عن الجسد رغبةً في إنهاء مسلسل الرحلة إلى ما وراء بحر ظلمات الحياة بعد أن بالغت الفنانة في الإخلال بنظام الجرعات؟!
للحقيقة أكثر مِن عينين وفَم.
copy short url   نسخ
29/06/2019
2458