+ A
A -
بقلم
د.سعاد درير
كاتبة مغربية
هي المرأة، هي المرأة التي تَغزل وشاح الحرير مِن كبّة الألم الكثير، تنسج على منوال إحساسها، تعزف على أوتار أوجاعها، وتغرف مِن قِدر صمودها ما يكفي من جرعات تُقَوِّيها على التحدي والعِناد..
في كل مرة، تَستوقفنا المرأة، والمرأة كما تَعرف يا صديقي لُغْزٌ أكبر مِن أن نَستهين بسِباق حَلّه، تستوقفنا المرأة بلباقة أسلوبها، فإذا بها تعترض طريقنا مستعرضة عضلاتها الفكرية والأدبية إلى جانب بطولاتها في ليل المقاومة..
ومن ثمة، تَعود إلينا المرأة بمفاتيح أبواب مُدُن الضوء تِلك التي نَجِد عندها سيقان الليل تَنْهَارُ ليتسَلَّلَ إلينا النَّهارُ، يتسلل إلينا كما لو أنه كان عائدا لِتَوِّه إلى الحياة من ثُقبِ تابوت..
إنها صرخة المرأة، الصرخة التي لا تَمُوت، الصرخة التي لا يُسمَع لها صوت إلا في درجته الصفر، لكنها الصرخة الواعدة بالكثير مِن الكلام مع بداية تبدد أمواج الظلام..
لتكن تلك الصرخة صرخة الكاتبة النمساوية الشاعرة والأديبة انغبورغ باخمان Ingeborg Bachmann، هي الشاعرة في ظرف زمني قصير، لم يتعدَّ حدَّ سنوات الأربعين، أثبتت للعالَم قوة إحساسها به، ومن هناك يأتي تفاعلها معه مختلفا عن سِواها من الذكور والإناث الذين تناوبوا على حمل مشعل التفكير، ولْيَكُنْ ذاك هو التفكير في هدوء..
إنه التفكير الذي تأكله الغيرة على أن يَضرب بِيَدٍ مِن حرير الشِّعر ليَدع تلك النعومة، وهي ذاتها النعومة التي أعطت الشاعرةَ انغبورغ باخمان الخلودَ، ويَدع بالتالي ذاك الملمس الذي لا يمكن للأصابع الشبِقة إلا أن تتحسسه..
لكن كيف للأصابع أن تَتَحَسَّسه؟!
صدِّقْ يا صديقي أنها القوة الخارقة للأصابع المتذوِّقة تلك التي لا يمكنها إلا أن تَتَحَسَّسَ ملمسَ ضفائر الشِّعر مُعِيدا صياغتَها ومجدِّدا أنفاسَها الحالمة بتفصيل مؤثِّثات العالم، بل وهوائه، على مقاس العيون غير الجافة تلك الملتقطة للجَمال والعمق والحقيقة بخبرة الشاعر بما حوله مختلفا كليا عَمَّا قد يُحسّ به الآخَرون..
عوالم دقيقة، رقيقة، تحملنا إليها انغبورغ باخمان بعينها الثالثة تلك الشاعرة بأشهى ما قد لا يَطيب للعينين ولا يليق بهما التقاطه مِن عناقيد الجَمال حتى في أقبح صوره التي ينفخ فيها الألم..
لكن لِنَقُلْ إن للقلب دائما سياسته الخاصة التي لا تَسمح مطلقا بالانقلاب عليه، كما للقلب بِالْمِثل مسطرته التي لا يمكن للعيون المتعَبة أن تكسرها أو تقفز على بند من قانونها..
«لا تُعلَن الحرب بعد الآن
بل هي متواصلة..
يُساق الضعيف إلى خطوط النار..
بِزَّة اليوم الموحَّدة هي الصبر..
والوسام نجمة الأمل البائسة على القلب» (انغبورغ باخمان).
ليل المعارك لا يَنام لسانُه، بين معركة التفكير التي تُلْهِب بوصلته الشقية، ومعارك الحياة التي يُعرَف مِن خلالها الحيّ مِن الميت، ومعركة الصمود في وجه الزمن المستَقْوِي على صِغار النمل مِن البشر..
لا شيء غير قميص الصبر يَرُدّ الاعتبار لاختلالات الصدر الهارب مِن قَفَصِه بحثا عن صندوق الحقيقة العائم في محيط النفس الرافضة لوُجودها رغم وُجودها، النفس التي لا يهزمها سَيف ولا حَوافر، لذلك تغدو معركة النفس أشدّ المعارك وأَشْرَسَها..
بين الصبر والأمل ما بين الميت وحفّار قبره، وما بين النفس والدرع الحصين.. وهذا المعذَّب المسكين يكفيه شَرَفا أن تُداويَ شيئا مما يُرهق عينيه في معركة الوجود بما تيسر من فلسفة تُعيله على الصمود..
الشاعرة انغبورغ باخمان ها هي لا تُخفي إلى أيّ مدى قد رضعَتْ هي في وقت مبكر حليبَ الفلسفة التي امتصت فيها إشعاع هايدغر ذاك الذي ارتبطت بأفكاره الشاسعة التي تملكتها حتى النخاع، لذلك لم يكن مِن الغرابة أن يتمّ إسقاط هذه الأجواء الفلسفية التي جعلَتْ أُفُقَها الشِّعري يَبلغ من النضج ما استعصى على غيرها..
«مثل أورفيوس
أعزف على أوتار الحياة الموت» (انغبورغ باخمان).
هل هذا ما تُحَدِّثُ به الشاعرة انغبورغ باخمان نفسها؟!
طبعا إن أقصى ما يهمنا هو جدلية الحياة والموت في حد نفسها، وكيف أن معركة الزمن النفسي والزمن الفلسفي تُصَيِّرُ الحياةَ موتا صغيرا، أو لِنَقُلْ حياة أَتْفَه مِن أن تُشَجِّعَ على الحياة..
فهل تَعِدُ رحلة الحياة بنهاية تُرضي الشاعرة؟!
«انتهت الرحلة
لكنني لم أتصالح مع أي شيء
لقد أخذ كل مكان قطعة من حبي
كل ضوء أحرق عيني
في كل ظل تمزق ردائي» (انغبورغ باخمان).
القطيعة عنوان للتحدي قاب قوسين أو أدنى من حفرة الاستسلام، لكنه التعلق يحل ويربط، يجرح ويداوي، يبعث على التأزم كما يحرص على التخفيف من وطأة المشهد..
أليس هو مشهد الحلول في المكان غير النافر منه الكِيان؟!
أليسَ هو القلب المعذَّب بحُبّه على امتداد المسافات التي تَكفر به؟!
أليست هي أضواء فناجين لَيل المكان الساكبة قهوتها الْمُرَّة في دهاليز القلب الميت بعيدا عن مصالَحات تَنتشل مِفتاحَ الغُربة مِن جيب المسافات؟!
أليس هو الضياع بِكُلّ المقاييس يُعيدُ هيكلةَ الزمن والمكان؟!
إنها سورة الضياع، وفي غياب توازن القدمين على أرض لا تسمح بالوقوف ستَعرف يا صديقي إلى أيّ درجة سيَنصب الليلُ نفسَه حاكما، سجن كبير هو ليل الغُرَباء، وفيه يَأخذ أماكنهم مَن ضاعوا، يتوحدون في اللاَّحَيِّز، لا شيء غير ألفَراغ:
«على طريق الليل المجدول
ينام الضائعون
في الممرات السفلية المرعدة» (انغبورغ باخمان).
المساحة الفارغة بين الرصيف والجدار هي الدائرة المغلقة التي تَسمح لأبناء الليل بشيء من الانتظار، ولْيَكُنْ هو الانتظار الذي يَستغرق مسافةَ العمر إلى حيث اللاَّبقاء واللاَّفِرار..
فهل مازلْتَ يا عابرَ شوارع الليل على أهبة واستعداد لتنال شيئا من رحيق الأمل في غياب بلح نخلة الصبر؟!
لا المسافات تتدانى في غير تناء، ولا الرحلة تنتهي، ولا الشفاه الضاربة لها موعدا مع الماء تَنْدَى:
«انتهت الرحلة
ما زلت مقيدا بالسلاسل إلى كل مسافة
لكن لم ينقذني طائر عبر الحدود
لا ماء يصب في الفم» (انغبورغ باخمان).
بين حدود تجربة الرحلة الْمُرَّة، وليل المسافات التي تحكم ربط حبل قدميك، ها أنت تَفنى في عبور جسر الحياة حافيَ القدمين، لا حذاء ولا ماء، لا ركن في الظل ولا سماء.. لا شيء غير نداء المعارك إلى المزيد من الدماء الحاصدة لعرش الروح..
حربُ الحياة تَقف على قدم وساق، وليلُ التمني يشدّ الوثاق، وبين الطالب والمطلوب ما بين طاغية يُوَزِّعُ أكواب الموت ودَمِ أسيرٍ يُراق..
جانب من الكتابة النسائية هو ذا الذي نقف عنده صحبة انغبورغ باخمان، جانب هو يعترف بفنيات المرأة وعلو كعب خبرتها في الترتيب لِنَصّ لا يمكن الخروج عنه بحال..
إنه النص الفاصل بين أبجديات لعبة الموت وقوانين الحياة في المرآة!
وتِلك مرآةُ الشِّعر تَقول كلمتَها.
copy short url   نسخ
03/08/2019
2616