+ A
A -
لو قالوا لعبدالفتاح السيسي اختر اسما لشهر سبتمبر الحالي لأجاب بلا تردد «شهر الجحيم»، ففي أسوأ كوابيسه لم يكن يتخيل أن ينهار في غضون أسابيع قليلة ما بذل قصارى جهده ليبنيه في عدة سنوات، وخاض من أجل تحقيقه في بحر من الدماء، وعقد عشرات الصفقات في الداخل والخارج، وقمع كل صوت معارض، وغيب قسريًا كل من له رأي مخالف.
وحين ظن أن الأمر له قد استتب وصمت الجميع، خرجت المظاهرات إلى الشوارع من جديد، ووضعت السيسي ونظامه في خانة رد الفعل المرتبك هذه المرة، وهو وضع لم يعتادوا عليه منذ خروج المظاهرات للاحتجاج على بيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في يوليو 2017 على الأقل.
الصفقات التي عقدها السيسي في الداخل والخارج يبدو أنه كان يعتقد أنها وحدها كفيلة بترسيخ سلطته وسلطانه العسكري، وأخرج الشعب من حساباته ظنًا منه بديمومة التزامه للصمت وإيثاره للسلامة، وكان ظن أقرب لليقين في وجدانه بعد كل ما اقترفه ونظامه من جرائم واعتقالات ومجازر ومحاكمات هزلية وإعدامات ميدانية بالجملة، لتأتي رياح سبتمبر بما لا تشتهي سفن السيسي وحلفائه، ولترتفع الهتافات الغاضبة من كل حدب وصوب، ولتجد أجهزته الأمنية والإعلامية نفسها في وضع أشبه بالعجز، وأتت ردة فعلها العنيفة وأساليبها القديمة والمكشوفة لتشويه من خرجوا شبيهة بمحاولات الصيد في الظلام، فمن خرجوا تلك المرة لا يمكن تصنيفهم أو حسابهم على أي حزب أو جهة أو تيار بعينه فهم مصريون فقط، فقد غابت التصنيفات واختفت الفوارق والتوجهات، ليتوحد الجميع خلف الهتافات المطالبة برحيل السيسي، وكان اللافت للنظر تصدر الجيل الجديد ممن كانوا صغارًا إبان ثورة يناير للمظاهرات، ليرسل خروجهم هذا رسالة في غاية الوضوح للنظام إن الثورة لا تزال باقية في النفوس وجذوتها مشتعلة تحت الرماد، وما هي إلا مسألة وقت لتنطلق وتحرق الخوف والصمت من جديد، فما تعاني منه مصر الآن أكثر وأخطر وأدعى للثورة عما كانت عليه قبل 25 يناير 2011، فإن كان الخروج في يناير قد جاء احتجاجًا على تجاوزات الشرطة وتوالي الأحداث، فاليوم جميع الأجهزة والهيئات التابعة للدولة أصبح الفساد والتجاوزات السمة السائدة فيها، وتعمل جميعها على سحق الشعب وإخراسه وإفراغ ما في جيوبه بشتى الطرق، إرضاء لرغبات ونزوات الجنرال الذي بات يتصرف وينفق كالقياصرة وليس كحاكم لدولة تعاني من الفقر والعوز والحاجة كما يدعي هو ومن حوله ليل نهار.
ست سنوات كانت كفيلة بتغيير المعادلة من النقيض إلى النقيض، ولتنكشف كل الوعود الكاذبة التي أطلقها السيسي منذ 2013 وحتى اليوم، وانفضت أغلب الجموع المؤيدة من حول الجنرال المنقلب ولم يتبق إلا أصحاب المصالح والمنافع، وبيده هو نفسه تآكل البنيان وتمزقت الصورة التي صنعها لنفسه كمنقذ للوطن والمضحي بنفسه وراحته من أجله، ليراه الجميع وفي مقدمتهم أنصاره وهو يعترف ببناء القصور، ويتحدى بأنه سيبني المزيد منها وغيرها من التصرفات التي تثبت أن السيسي بات يعتمد فقط على القوة المسلحة للبقاء في سدة الحكم، وتلك معادلة يستحيل أن تنجح أو تستمر، والوصول لتلك النقطة يطرح التساؤلات لتكون متى سيرحل وليس إلى متى سيبقى؟ فقد بات بقاؤه أمرًا مكلفًا ويسلتزم جهودًا وأثمانا مضاعفة. ففي 2013 وما تلاه، كان النظام العسكري -مجازيًا- في مواجهة الإخوان والمتعاطفين معهم من باب مناصرة الثورة واختيارات الشعب ورفض تغيير النظام الديمقراطي المنتخب من بوابة الانقلاب بدلًا من صناديق الاقتراع، أما اليوم فالنظام -حرفيًا- في مواجهة الشعب المصري بكافة طبقاته وأطيافه. في السابق كان الصراع بين الانقلاب ومعارضيه سياسيًا بامتياز، أما اليوم فالصراع بات سياسيًا مع البعض واقتصاديًا مع الأكثرية ومجتمعيًا مع الغالبية الساحقة، فلا أحد في مأمن من البطش مهما كان توجهه السياسي إن لم يسبح بحمد النظام، والجميع يعاني من الارتفاع المستمر في الأسعار المتزامن مع تدني الخدمات واختفاء أي مفهوم للعدالة الاجتماعية، فهناك أقلية تتمتع بكل شيء وغالبية ساحقة بالكاد يمكنها العيش، وقد يعتقد البعض أن هذا بالأمر الهين، ولكنه على العكس هو الجزء الأخطر الذي يعول عليه السيسي في تمزيق النسيج المجتمعي، ويحمل بين طياته بوادر صراع طبقي لا تحمد عقباه.
{ (يتبع)
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
27/09/2019
1775