+ A
A -
شهد التاريخ الحديث الكثير من الأزمات بين الدول، وعرف تباينا كبيرا في مواقفها تجاه كثير من القضايا، وصلت في بعض الأحيان إلى حروب، امتدت على مدى أيام أو أشهر أو سنوات، لكنها لم تشهد إجراءات أو قرارات بحجم تلك التي اتخذتها الدول الخليجية الثلاث ضد قطر.
كان واضحا أن هذا التصعيد الذي بدأ بقرصنة آثمة، ووصل ذروته في غضون ساعات فقط، سوف تتبعه تحركات عدوانية، تتجاوز المقاطعة والحصار وقوائم المطالب السوداء، وأن المطلوب هو سلب إرادتنا واستقلالنا، وتحويلنا إلى ما يشبه دولة تحت الانتداب.
كان المطلوب أمننا ورفاهنا ومستقبلنا وحريتنا، والأهم تلك القيادة الفذة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من أمن واستقرار ورفاه.
كانت المؤامرة كبيرة وواسعة، لكن المتآمرين نسوا، في زحمة تكالبهم على قطر، أن هذا البلد، وشعب هذا البلد لن يكون إلا في صف قيادته، يبذل الغالي والنفيس، دفاعا عنها، ففي ذلك دفاع عن مستقبله ومكتسباته ومنجزاته التي ما كانت لتتحقق لولا أن قيّض الله لهذا البلد الحبيب قائدا استثنائيا صار رمزا للعزة والشرف، وصخرة للصمود، تكسرت عليها نصالهم المسمومة.
هو «تميم المجد» أيقونة قطر ورمز عزها وفخرها، كيف لا وهو نجل باني قطر الحديثة، ومفجر نهضتها صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حفظه الله، الذي ائتمنه على هذا الوطن الغالي، لاستكمال مسيرة الخير والبناء، فكان على قدر المسؤولية الجسيمة، حيث أبحر بمركبنا إلى بحار جديدة، ورايتنا تعلو وتخفق، إيذانا باستكمال مرحلة البناء التي نشهدها على كل صعيد.
ولأن الشدائد تختبر العزائم، فقد جاء الحصار الآثم، ليؤكد أن قائد هذه المسيرة على قدر المسؤولية، وأنه الرجل الذي قيّضه الله سبحانه وتعالى ليدير دفة الحكم في مرحلة صعبة، هي مرحلة اعتداء كامل المواصفات على استقلالنا وأمننا ومستقبلنا، فمضى بنا بشجاعة وقوة وحكمة وحنكة، في مواجهة هذه العاصفة الهوجاء إلى بر الأمان، وكان على العهد، وفيّا لوطنه ولشعبه، ولكل القيم والمبادئ التي نشأ عليها في بيت، عنوانه الوطنية والإيثار.
هذا هو قائدنا الذي رعى بالأمس الافتتاح الرسمي لميناء حمد، في منطقة أم الحول، صخرتنا الصلبة لكسر الحصار، وبوابتنا إلى العالم الأرحب في ظل الحصار وإغلاق الحدود ومحاولات كسر الإرادة والنفوس.
بالأمس، وهو اليوم الـ «93» للحصار، كنا على موعد مع التاريخ مرة أخرى، وكان صانع التاريخ هناك، حيث قام بوضع شعار ميناء حمد في المجسم المخصص له، إيذانا منه بالافتتاح الرسمي للميناء، هذا المنجز الكبير الذي يشكل واحدة من أهم العلامات الفارقة في تاريخ قطر، باعتباره الوسيلة والأداة التي ستمكننا، بإذن الله، من مواجهة حصارهم ومكائدهم ومؤامراتهم، بعد أن صار بوابتنا الأكبر إلى عالم فسيح ورحب، وقف معنا ومع عدالة قضيتنا منذ اليوم الأول المشؤوم، يوم الخامس من يونيو 2017، الذي سيبقى في ذاكرتنا طويلا.. طويلا.
قبل حوالي «6» سنوات، وضع صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، وكان وقتها وليا للعهد، حجر الأساس لهذا الصرح الكبير، كأحد أبرز مشاريع البنية التحتية الكبرى، التي خططت قطر لإنجازها، وفقا لرؤية قطر 2030، التي خصصت لها ميزانية تفوق 140 مليار دولار، وتتوزع هذه المشاريع الضخمة بين شبكات الطرق البرية والبحرية والجوية والسكك الحديدية.
لم يكن هذا المشروع لمواجهة الحصار، فلم يكن هناك أي حصار، ولم يخطر في بال أحد أن وضع حجر الأساس يوم 11 يناير2011، كان في واقع الأمر بمثابة وضع حجر الأساس المتين لأمننا وأمن شعبنا، ولتمكين قطر من مواجهة الحملة الشرسة التي تتعرض لها اليوم.
لكن ميناء حمد، وكل مشاريع البنية التحتية، وكل التوسعات في خطوطنا الجوية الرائدة، كانت في نهاية المطاف بمثابة حائط الصد الذي تكسرت عليه مؤامرة دول الحصار، وعندما بدأت كل هذه المشاريع العملاقة، بفضل الرؤية الثاقبة لصاحب السمو الأمير الوالد، حفظه الله، كان الهدف منها بناء قطر وزيادة مناعتها وقدراتها، وهذا ما مكننا اليوم من مواجهة مؤامرات المتآمرين، فقد لعب ميناء حمد دورا بارزا في كسر الحصار، من خلال تنشيط حركة استيراد البضائع والمؤن، وتوفير البدائل، بعد غلق المنفذ البري الوحيد لقطر مع السعودية.
وبادرت الشركة القطرية لإدارة الموانئ في الأيام الأولى لبدء الحصار على قطر إلى فتح خطوط بحرية جديدة، تربط بين ميناء حمد وعدد من الوجهات البحرية، لاستيراد الحاجات الأساسية التي كانت تصل من دول الحصار، حيث أعلنت شركة الموانئ القطرية تدشين خط ملاحي جديد يربط ميناء حمد بميناء صحار في سلطنة عمان، بتاريخ 12 يونيو 2017، ثم أعلنت لاحقا فتح خط آخر يربط بين ميناء حمد وميناء صلالة العماني.
وبالإضافة إلى ذلك تم تدشين خط ملاحي جديد لنقل البضائع بشكل مباشر بين قطر والهند، ويربط هذا الخط الملاحي بين ميناء حمد وميناءي «ماندرا» و«نافا شيفا» في الهند، وستصل سفن هذا الخط إلى ميناء حمد كل جمعة من كل أسبوع، حيث يصل حجم الشحنة إلى 710 حاويات، على أن تتم زيادة الحجم على حسب الحاجة.
وشهد ميناء حمد في الثاني من مايو 2017 تدشين خط بحري مباشر لتحالف (OCEAN ALLIANCE) المصنف كأكبر تحالف بحري في العالم، الذي يضم خمس شركات من كبريات الشركات العاملة في مجال الشحن والنقل البحري بأسطول يزيد على 350 سفينة، وقدرة استيعابية تتجاوز 3.5 مليون حاوية نمطية.
وكانت الشركة القطرية لإدارة الموانئ (موانئ قطر) دشنت أول خط نقل بحري مباشر بين الدوحة ومدينة شنغهاي الصينية أواخر يناير 2017، مما يختصر زمن الرحلة بين الدولتين إلى عشرين يوما.
كما تم تدشين عدة خطوط ملاحية مباشرة بين ميناء حمد وعدد من الموانئ في المنطقة وخارجها، خلال الفترة الماضية، بمدة عبور تنافسية، وذلك من أجل توفير حلول سريعة ومضمونة للمصدرين والموردين من مختلف أنحاء العالم، وتربط الخطوط الجديدة الموانئ القطرية بكل من ميناء الشويخ في دولة الكويت، وميناء كراتشي في باكستان، وميناء ازمير في تركيا.
الدول القوية هي الدول القادرة على حماية أمنها واستقلالها وسيادتها، وأمن ورفاه مواطنيها، عبر تمكينهم وتأهيلهم، لذلك كله استطاعت قطر أن تواجه المؤامرة، وأن تنتصر عليها منذ اليوم الأول، عبر تحركات سياسية وقانونية واقتصادية وتجارية، وعبر مشروعات البنية التحتية التي تكللت أخيرا بافتتاح مجموعة من الطرق والأنفاق، كان هدفها جميعا التصدي لمحاولة الاعتداء على أمننا ومستقبلنا، وكان من نعم الله علينا أن ميناء حمد بدأ في استقبال السفن، الأمر الذي مكننا من الانفتاح على العالم، خلال فترة وجيزة للغاية، عبر 150 وجهة بحرية، ستوفر لقطر الاستقلالية الكاملة في اعتمادها على استيراد وتصدير البضائع إلى مختلف القارات، ويمكن أن يوفر الميناء حاليا أكثر من 200% من التزامات واحتياجات السوق المحلي، نظرا للإمكانات الجبارة فيه، والقادرة على استيعاب كل أنواع البضائع، واستقبال جميع السفن بأحجامها وحمولاتها المختلفة، وقد زُوّد الميناء بأحدث الأجهزة والمعدات، حيث تتميز وتيرة تحميل الشاحنات والمناولة فيه بالسرعة الفائقة، نظرا لأن تفريغ الحاوية وتسليمها للمستورد يستغرق 20 دقيقة فقط، بمتوسط تفريغ للسفن يبلغ 30 حاوية في الساعة، بينما تصل الطاقة الاستيعابية الإجمالية للميناء إلى نحو 7.6 مليون حاوية، منها مليونا حاوية سنويا ضمن المرحلة الأولى من تشغيل الميناء. وقد استقبلت موانئ قطر خلال النصف الأول من العام الجاري ما يصل إلى 470 ألف طن من البضائع العامة، ونحو 407 آلاف رأس من الثروة الحيوانية، إضافة إلى 449 ألف طن من مادة الجابرو ومواد البناء المتنوعة، وأكثر من 400 ألف طن من المعدات والسيارات.
ميناء حمد ليس مجرد ميناء عادي قادر على استقيال السفن بمختلف الأحجام والحمولات، فهو ركيزة أساسية من ركائز نهضتنا الشاملة، ومن المؤكد أن افتتاحه بالأمس أعطى إشارة البدء لانطلاق قطر في مرحلة جديدة من بناء صرحها الشامخ، حيث من المنتظر أن يشكل دفعة قوية للاقتصاد القطري من خلال تحقيق التنوع، وتحويل البلاد إلى مركز تجاري إقليمي، ودعم المخزون الاستراتيجي للدولة من الاحتياجات الغذائية والدوائية وغيرها، عبر مرافق تصنيع وتحويل وتكرير متخصصة للأرز والسكر الخام والزيوت الصالحة للأكل، وستكون هذه المنتجات متاحة للاستخدام المحلي والإقليمي والدولي، كما يضم المشروع صوامع للتخزين وما يرافقها من بنية تحتية ومعدات النقل الخاصة بها، بالإضافة إلى إنشاء الهياكل الأساسية المجهزة بمعدات عمليات المناولة والتجهيز والتعبئة وإعادة التحميل والنقل المرتبطة بالمشروع، وتوفير مخزون لثلاثة ملايين نسمة لمدة عامين.
هذا هو المغزى الأساسي لهذا المشروع التنموي الكبير، أي ربطنا بالعالم، وتأمين تدفق السلع، وتأمين مخزون استراتيجي من المواد الضرورية تكفي وتفيض عن احتياجاتنا، لذلك كان يوما فارقا وعلامة مضيئة في تاريخنا، ودفعة قوية للتأسيس من أجل المستقبل.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإن هذا الميناء سوف يستحوذ على أكثر من ثلث تجارة الشرق الأوسط، وهو استحوذ بالفعل حاليا على حوالي 35% من هذه التجارة، الأمر الذي يؤكد أهمية هذا المشروع وحيويته، خاصة في هذا الوقت بالتحديد، حيث تتكالب قوى الشر والظلام لسلب قطر حريتها وسيادتها.
لقد كان يوما مشهودا بحق، وكانت لحظات معبرة ومؤثرة، عنما وضع صاحب السمو شعار ميناء حمد في المجسم المخصص له، إيذانا منه بالافتتاح الرسمي للميناء، بوابتنا إلى العالم، عبر بحار خبرناها منذ الأزل، وكانت أكثر طيبة ورأفة وحنواً من أشقاء أرادوا إغراقنا وتدمير منجزاتنا، لكننا انتصرنا بفضل الله، وبفضل قيادتنا، التي هي فخرنا وعزنا ومجدنا.
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
06/09/2017
7322