+ A
A -
لم يكن غريباً أن تمد قطر يد العون للعراق بحزمة قروض واستثمارات بقيمة مليار دولار، أعلن عنها سعادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، أمس، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار المناطق المحررة في العراق، موضحاً اهتمام حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى «حفظه الله»، بمجريات المؤتمر، ودعمه للعراق الشقيق لاستعادة دوره ومكانته في محيطه الإقليمي والدولي.
مليار دولار من قطر وهي تحت الحصار، من كان ليعتب عليها لو أنها أجّلت الدعم بسبب الظروف الراهنة التي فرضها من يفترض أنهم أشقاء على أمل بائس وحلم بعيد المنال، وهو ترويض سياستنا وتقويض أمننا.. وهم يعلمون عبر سنوات التاريخ، وذاكرة الأرشيف، أن القطريين منذ تأسيس دولتهم قبل 140 عاماً يعتبرون سيادتهم هي كرامتهم والمساس بها خطا أحمر.. ودونها يدافع الشعب عن وطنه بكل معاني الولاء، وبكل آيات الوفاء، ولأجلها يضحي بالأرواح، ويفديها بالدماء.
لا أحد بالتأكيد سيلقي باللوم على قطر وهو يعلم حجم المؤامرة التي تحاك ضدها، كما أنه يشفع لها تاريخها الإنساني الناصع، لكنه نداء الواجب والانتماء الواحد، والإيمان الذي لا يتزعزع بوحدة الهدف والمصير لدولنا العربية، وهكذا تناست ما يُحاك ويُدبّر لها، ومضت غير عابئة بالمؤامرة، لمساعدة بلد شقيق، بذل الكثير في حربه ضد الإرهاب، لذلك كانت قطر في مقدمة المساهمين، وكما أوضح سعادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فإن دولة قطر قدمت على المستوى الحكومي وغير الحكومي، ومازالت، كافة أشكال الدعم الإنساني للعراق الشقيق من خلال المشاريع الإنسانية الإغاثية والتنموية في التعليم والصحة، لافتاً سعادته إلى أن الهلال الأحمر القطري أنشأ مستشفيات ميدانية، وأجرى مئات العمليات الجراحية للمدنيين وضحايا التنظيمات الإرهابية، ومن سقطوا في العمليات العسكرية، خلال عملية تحرير الموصل، فضلاً عن مساعدة مئات العائلات النازحة، كما أن المؤسسات القطرية المتخصصة أعلنت خلال اليومين الماضيين عن خطط لدعم جمهورية العراق الشقيقة في المجال الإنساني والتعليم.
هذه قطر التي لم تنشغل يوما عن قضايا أمتها وأشقائها وأصدقائها، فكانت أول المبادرين كلما دعت الحاجة، وأول الواصلين كلما استدعت الضرورة، فكانت حاضرة في هذا المؤتمر، كيف لا والداعي دولة الكويت العزيزة على قلوبنا والهدف مساعدة العراق القريب إلى أرواحنا؟
صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، افتتح المؤتمر رسميا، أمس، بالإعلان عن تخصيص مليار دولار أميركي كقروض وفق آليات الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، ومليار دولار للاستثمار في الفرص الاستثمارية في العراق، فضلا عن مساهمة الجمعيات الخيرية الكويتية، وهي مساهمات لم تنقطع أيضا طيلة فترة المواجهات الصعبة في العراق.
لم تفكر الكويت أنها كانت ضحية الاجتياح العراقي في مرحلة ما من التاريخ، ولم تفكر بالخسائر الهائلة التي تكبدتها نتيجة هذا الغزو، ولم تفكر بأن ما يحدث للعراق لا يعنيها أو أنه لا يندرج في سلم أولوياتها، كانت من أول المبادرين واستضافت المؤتمر على أرضها، وافتتحه أمير الإنسانية فيها، مؤكدا أن ما سيسفر عنه المؤتمر من نتائج يعد استمرارا لجهود الجميع، وتفاعلا من المجتمع الدولي في السعي لمواجهة الإرهاب وهزيمته، والتصدي لكل ما يمثله من مخاطر وتحديات.
المؤتمر، الذي أكتب منه وعنه، لا يستهدف جمع التبرعات فقط، على أهمية هذا الهدف وأولويته، وإنما أيضا النظر في خطط التعافي وإعادة إعمار المناطق المتضررة، والاحتياجات التمويلية وتقدير الخسائر، إلى جانب البعد الاجتماعي لإعادة الإعمار وإعادة التأهيل الاجتماعي في المناطق المتضررة.
كل من التقيته، هنا في الكويت، كان متفائلا، وزاد التفاؤل بعد الإعلان عن المساهمات القطرية والكويتية، والمساهمات الدولية الأخرى، التي وصلت إلى «30» مليار دولار، هذا المؤتمر سوف يشكل اللبنة الأولى والأساسية من أجل عودة العراق آمنا مستقرا، قادرا على ممارسة دوره في محيطه وفي العالم، مع انتهاء الحرب المدمرة التي خاضها للقضاء على «داعش» والتخلص من عامل رئيسي من عوامل عدم الاستقرار.
تشير التقديرات إلى أن هذا البلد العربي يحتاج لما بين 88-100 مليار دولار لإعادة الإعمار، وهو مبلغ كبير للغاية ربما لن تتمكن عشرات الدول وأكثر من «1850» جهة خاصة، تشارك في المؤتمر من تأمينه كاملا، لكننا لا نتحدث هنا عن مبالغ نقدية، وإنما عن استثمارات وشراكات طويلة الأجل، هدفها القيام بمشروعات كبرى، خاصة وأن الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق قد أعدت «157» فرصة استثمارية للمستثمرين الأجانب القادمين من شتى أنحاء العالم، ما يعني أن تحقيق الهدف المنشود ربما لا يكون بعيدا، ويجب ألا يكون كذلك، على اعتبار أن العراق تحمل الكثير في عبء التصدي لإحدى أكبر الظواهر الإرهابية المتمثلة بـ «داعش».
وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الخالد الصباح، كان أكد قبل أيام، أن استضافة بلاده للمؤتمر تعكس إيمانها بأهمية دعم العراق، وأن المشاركة الواسعة في فعاليات المؤتمر تمنحه أهمية كبيرة، وتمثل رسالة من المجتمع الدولي بالتزامه بأمن العراق واستقراره وإعادة إعمار المناطق المستعادة من تنظيم الدولة.
لقد تعهدت منظمات دولية غير حكومية مع بدء أعمال المؤتمر بتقديم مساعدات إنسانية بقيمة «330» مليون دولار، وهو مبلغ يكاد يكون رمزيا، والهدف منها المشاركة مع العراق، وهو بذلك هدف سياسي له مغزاه، خلاصته أن المجتمع الدولي يقف قلبا وقالبا مع هذا البلد العربي لتجاوز محنته والانتصار لمستقبله.
نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الدكتور حافظ غانم يؤكد أن مشروع إعادة إعمار العراق هو هدف للمجتمع الدولي ككل ولمنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، من أجل تحقيق استقراره.
وقد أشار إلى أن البنك كمؤسسة دولية مهتم بملف إعادة إعمار العراق، وأن هذا البلد يحتاج إلى استثمارات كبيرة خاصة في البنية التحتية، مثل الطاقة والنقل والإسكان، موضحا أن أغلب هذه الاستثمارات تأتي عن طريق القطاع الخاص، خاصة وأن العراق دولة جاذبة للاستثمار لأنها تمتلك قدرات وثروات كبيرة مثل البترول والزراعة والسياحة والصناعة، موضحا أن المستثمر يبحث عن الضمانات التي تحمي استثماراته مثل وجود ضرائب مناسبة، وانتقال سهل لرؤوس الأموال، إضافة إلى ترسيخ الأمن فيه.
بعيدا عن الأموال والاستثمارات ولغة الأرقام، فإن انعقاد هذا المؤتمر في الكويت له مغزاه الكبير.
أولا، لأن الكويت دولة شقيقة، وثانيا، لأنها أيضا دولة جارة للعراق، وثالثا لأنه تم اجتياحها من جانب العراق في الثاني من أغسطس «1990»، ومع ذلك فإن مؤتمر إعادة إعمار العراق ينعقد فيها، وتُبذل فيه جهود مضنية للوصول إلى النتائج المتوخاة، وفي ذلك إشارة أخرى على المواقف الإنسانية الناصعة لدولة الكويت، وإشارة أخرى على الحكمة والمنطق والإيمان العميق بالمصير المشترك، وهذا كان دائما في صلب السياسة الكويتية.
لم يكن مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق الأول من نوعه، فقد سبق للكويت استضافة عدة مؤتمرات للدول المانحة لدعم السوريين ضحايا الحرب واللجوء، وقد تم جمع مليارات الدولارات للتخفيف عنهم، بفضل المبادرات والتحركات الكويتية.
أينما كان هناك محتاج أو وقعت كارثة أو أزمة أو اضطهاد، تجد قطر والكويت حاضرتين، تمدان يد العون والمساعدة فوراً، ناهيك عن دعمهما للمؤسسات الخيرية والإنسانية والمنظمات الدولية في محاربة الفقر وتعزيز الصحة العامة والتعليم والتنمية الاقتصادية والبنية التحتية.
أمير الكويت لم يتأخر ولم يتوان ببذله وعطائه ومساندته لقضايا البشرية، فاستحق بجدارة تكريم الأمم المتحدة وتسميته «قائدا للعمل الإنساني»، وتسمية دولة الكويت الشقيقة «مركزا للعمل الإنساني»، تقديرا لجهود سموه، وإسهاماته الكريمة، ودعمه المتواصل للعمليات الإنسانية للمنظمة الدولية للحفاظ على الأرواح وتخفيف المعاناة حول العالم، وذلك في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك في التاسع من سبتمبر «2014».
في حفل التكريم قال الأمين العام للأمم المتحدة «مقابل حالة الموت والفوضى التي شهدها العالم، شاهدنا مظاهر كرم وإنسانية من قبل جيران سوريا، قادتها دولة الكويت أميرا وشعبا... لقد أظهرت الكويت كرما استثنائيا تحت قيادة سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح... ورغم صغر مساحة البلاد، إلا أن قلب دولة الكويت كان أكبر من الأزمات والفقر والأوبئة».
هو رجل التسامح والسلام، لذلك لم يكن غريبا ولا طارئا أن ينعقد مؤتمر إعمار العراق في الكويت، وهو الرجل المؤمن بقضايا أمته، فلم ينقطع عن دعم الدول العربية من مصر إلى تونس وليبيا واليمن والسودان ولبنان والصومال، وهو الرجل المؤمن بالقضايا الإنسانية، لذلك وصلت مساعداته إلى آسيا وإفريقيا وغيرها من الدول الأخرى، حيث امتد دعمه إلى كل مكان وجد فيه معاناة.
كرم قطر الخير، وكويت المحبة والإنسانية، امتد إلى كل من يحتاج ساعة أن يحتاج، فشمل مناطق ودولا امتدت من إفريقيا إلى آسيا إلى كل مكان، إنهما نخلتان ظللتا بفيئهما وخيراتهما كل من قصدهما، بحثا عن الظل أو الثمر، دون منّة أو أذى، هذا هو الانتماء، وهذا هو العطاء.

بقلم:محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
15/02/2018
5851