+ A
A -
بقلم - إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
كنت أمسك فنجان قهوتي السمراء بيدي وإذا به ينسكب على مفرش الطاولة الأبيض مكوناً أشكالاً غريبة، ينسكب للمرة الثالثة على التوالي، لا أعلم لم ترتجف يداي بهذه الطريقة اليوم؟ أشعر بقليل من التوتر لا أعلم هل هو بسبب عسر النوم الذي يلازمني منذ بضعة أسابيع؟ أم إنها أعراض كبر السن كما يقال ؟ أم لربما أن الاشتياق والحنين قد بلغ أوجه في قلبي وروحي ؟ خمسة عشر عاماً مضت منذ أن التقيته آخر مرة، خمسة عشر عاماً منذ أن ودعني مقبلاً جبيني واعداً إياي بأن الفراق لن يطول، وعدني بأنها أيام معدودة وستنقضي سريعاً، وعدني بأنه سيعود قبل أن يتسرب شعور الحنين إليه إلى قلبي، وعدني بأنه سيحادثني كل ليلة وبأنني سأكون في قلبه وعقله، وعدني بأن الفراق في المسافات لن يفرق قلوبنا وأرواحنا عن بعضها البعض، وعدني ولكنه أخلف بوعده، لا.. هو لا يخلف بوعوده لي لربما هنالك ما منعه من إيفائه بالوعود ؟! لربما نسي وعوده ؟!! أرسلت له العديد من الرسائل لكنها لم تصل، حاولت الاتصال به مرات ومرات لكنه دائماً يغير رقم هاتفه، سألت عنه من أعرفهم من أصحابه المقربين لكن للأسف لم يكن أحد منهم يعلم عنه شيئاً.
سافر وطال به السفر..
وانتظرته وطال بي الانتظار..
كل يوم يمر كنت أمني النفس باتصال منه..
كل يوم جديد كنت أجدد الأمل بعودته..
متى يكوي نار الشوق قلبه كما اكتوى قلبي ؟! متى يرف قلبه حنيناً فيعود إلى أحضاني كطائر مشتاق لحضن محبوبته ؟! متى أمتع ناظري برؤيته مجدداً ؟! العمر يمضي بي سريعاً، والشيب غزا مفرق شعري.
ودعني وأنا شابة في الأربعين من العمر، وها أنا على أعتاب الستين، كبرت والتهم جسدي التعب والأوجاع من لوعة الفراق.
كيف يصبر الحبيب على فراق محبوبه سنين طويلة ؟ مرارة الفراق تعصر قلبي، عيناي أضناها السهر، وعقلي جنّ من الاشتياق.
تمر علي ذكرياتي معه كومضات سريعة، خطواته الأولى، أول كلمة، عودته من المدرسة وهو يحمل شهادة النجاح ليرتمي في قلبي لأشاطره فرحته بالتفوق، كبر وكبرت معه أحلامه وطموحاته، لم تعد هذه البلدة الصغيرة تتسع لأحلامه المتزايدة، جاءت له فرصة للابتعاث في الخارج للدراسة وهو شاب في عنفوان أحلامه وطموحاته، انقبض قلبي، شيء ما أخبرني أن ارفضي، أن امنعي هذا السفر، لكن عندما استمعت إلى ضحكاته ورأيت السعادة في حركاته وسكناته والسرور ينبثق من عينيه انعقد لساني وصمت، لم أشأ أن أعكر صفو هذه السعادة، فسعادته هي غايتي ومرادي، وافقت على مضض، وافقت وأنا أمني النفس بوعوده.
سافر وحلق بعيداً..
وحلقت معه وعوده وآماله لي..
خمسة عشر عاماً مضت انقطعت فيها أخباره منذ العام الأول..
حاولت اللحاق به مرات عديدة لكنني لم أسترشد إلى عنوانه، فظللت أنتظر وما زلت أنتظر، لعل الشوق والحنين يعود به إلى.
اشتقت إليك يا بني الحبيب فمتى نلتقي ؟ أصبحت من بعدك كشجرة يابسة..
متى يرتوي القلب برؤياك ؟ متى تزهر شجرة العمر وتثمر بعودتك ؟!
علمني معلمي
هل يولد المرء منا عالماً ؟ هل نقتطف زهور العلم من حدائق الطريق ؟ أم إننا نرتشفها من معلمين نعتكف في مدارسهم ؟ هل العلم يحتسى كشربة ماء زلال ؟ أم إن العلم يبلغ بشق الأنفس ؟ ما الذي يظل عالقاً في عقولنا ؟ هل كل ما نراه ونسمعه ؟ أم ما تدقه مطرقة الحياة هو ما يصقل ويلمع ويثبت في العقول ؟ تعلمت ونهلت من طرق عديدة، وحاولت أن أقتطف كل ما يقع عليه عقلي في أزقة الحياة ودروب العلم، تعددوا معلميَّ وتفاوتت أعمارهم وأجناسهم، كل معلم منهم كنت أرتوي من خبرته وعلمه وتتشرب خلايا عقلي بأكبر قدر ممكن من المعارف والثقافات ليزداد نضج هذا العقل وأضيف رصيداً إلى سنوات عمري من أعمارهم وخبراتهم.
حدثني أحد معلميَّ ذات يوم عن أقسى وأشنع أنواع الحروب التي يخوضها الإنسان، وهي حربه الداخلية ضد نفسه حينما يكون المرء عدوا لنفسه، حينما تكون أنت القاضي والمحامي والمتهم، حينما يكون الظالم والمظلوم في داخلك يتصارعان، حينما تكون الحرب التي تدور بين عقل نهم للعلم وهمّة لا تستكين وروح تميل للراحة والسكينة، فلمن تكون الغلبة فيهم؟ علمني معلميَّ ذات يوم أن زمن المعجزات لم ينته، ألست أنت في حد ذاتك معجزة من معجزات الله، تأمل نفسك وما حولك سترى معجزات الله تحدث لك وحولك كل يوم.. فقط تأمل.
علمني معلميَّ ذات يوم أن العلم كالطائر المشاكس ما أن تظن أنك اصطدته حتى يهرب ويحلق بعيداً عنك لذا يجب عليك أن تحكم إغلاق أقفاص عقلك عليه لكي لا يضيع منك.
علمني معلمي أن الأحلام لا عمر لها، وأن الطموح لا سقف له، وأن الشغف هو المحرك الأول للروح البشرية، فما أن يجتمع الحلم والطموح والشغف حتى كان صعودك للقمم أكثر إمتاعاً وقوة.
معلمي لديه الكثير والكثير..
وعقلي الصغير مازال يرغب في التهام المزيد، وما زال يبحث عن ما يغذيه..
علمني معلمي، وما زال نهر علمه يتدفق لينهل منه كل محب وراغب وجائع للمعرفة..
معلمي الفاضل.. ماذا تخبئ لي من مزيد في جعبتك ؟!!
copy short url   نسخ
19/05/2019
2406