+ A
A -
اعتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن ملف السياسة الخارجية للولايات المتحدة سيكون أمراً سهلاً وواضحاً، إذ كان بالنسبة له أن سلفه أوباما لم يكن لديه ما يلزم لإيقاف إيران وكوريا الشمالية، وهنا أراد أن يظهر للجميع كيف سيسير الأمر على طريقته الخاصة، دون أي تفكير عميق أو تخطيط إستراتيجي، فكيف فعل ذلك؟
التهديد بالتدمير الكامل
أخبر دونالد ترامب الكوريين الشماليين أنَّه إذا اضطرت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها وحلفائها من هجوم صاروخي «فلن يكون أمامنا خيار سوى تدمير كوريا الشمالية بالكامل». وفيما يتعلق بإيران غرد على تويتر قائلاً: «إن أرادت إيران القتال، ستكون هذه هي النهاية الرسمية لإيران».
«مذهل، النهاية الرسمية لإيران! ماذا يعني ذلك أصلاً؟ هل ستسقط الولايات المتحدة سلاحاً نووياً على إيران، التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة؟ هل سنجعل كوريا الشمالية تتوهج في الظلام من الإشعاع دون الإضرار بكوريا الجنوبية أو اليابان أو الصين؟». يتساءل الكاتب الصحفي الأميركي الشهير توماس فريدمان، في مقالة نشرت بصحيفة The New York Times الأميركية.
يقول فريدمان: في الواقع، إنَّ هذه لغة شخص لا يعرف شيئاً عن القوة العسكرية، ولديه شعور مبالغ فيه بما يمكن أن ينجزه. إنَّها لغة شخص يلعب دور قائد، على شاشة التليفزيون.
ثم من جديد، إنَّ مجرد سؤالنا «ماذا يعني؟» عن تغريدة ترامب لهو أمر مثير للسخرية، لأنَّه يبدو جلياً أنه يلقي بهذه التصريحات دون أي تفكير عميق أو تخطيط استراتيجي مسبق في غرف العمليات، وهذه هي المعضلة الحقيقية.
يضيف فريدمان: ما نراه في حالتي إيران وكوريا الشمالية يمثل كل سلبيات وجود رئيس يتمتع في بعض قضايا السياسة الخارجية بالغرائز الصحيحة، مثلما هو الحال في الحاجة إلى مواجهة الصين في التجارة أو الرغبة في تحسين اتفاق إيران، لكنه يشرع في مبادرات دون خطة مدروسة أو أهداف واضحة، ودون وجود فريق قوي للأمن القومي لتنفيذ ما يريد، ودون اتفاق واسع مع الحلفاء المطلوبين لمواصلة أي مواجهة طويلة، ودون حتى أدنى تفهم ممكن لإحدى قواعد الحرب لوزير الدفاع السابق جيم ماتيس: «للعدو أيضاً رأي في المسألة».
ماذا يريد ؟
يقول فريدمان وهو من كبار الكتاب في نيويورك تايمز: دعونا نفكك كل هذا. هل لديك أي فكرة عما إذا كان هدف ترامب سواء في إيران أو كوريا الشمالية هو، كما طلب روبرت ليتواك خبير مركز ويلسون في الدول المارقة «تغيير يقلب النظام» أم «صفقة إجرائية» حيث يتعين علينا واقعياً التنازل عن شيء للحصول على شيء في المقابل.
في حالة إيران، كان ترامب وفريقه يسيرون في كل الاتجاهات. بعد أن سحب ترامب أميركا من الاتفاق النووي الإيراني -رغم أن إيران كانت ملتزمة بشروطها- ألقى مايك بومبيو، وزير خارجيته الطموح، خطاباً يذكر فيه المسارات الاثنى عشر التي يتعين على إيران التغير فيها داخلياً وخارجياً، وهي مطالب تعني تغيير النظام.
أوباما على النقيض من ذلك، لم يخف شيئاً عن طبيعة اتفاقه مع إيران عام 2015. لقد كانت صفقة بحتة، تقتصر كلياً تقريباً على ضمان حظر مدته 15 عاماً على قدرة إيران على صنع سلاح نووي. كان أوباما يأمل، لكنه لم يتوقع، أنَّه من خلال مقايضة رفع العقوبات الاقتصادية مقابل تخلي إيران لمدة 15 عاماً عن أي برنامج أسلحة نووية، ستنفتح إيران بشكل أوسع على العالم، وستصبح المجموعات المعتدلة فيها أقوى.
الجزء الثاني لم يحدث، أصبحت إيران فاعلاً إقليمياً أكثر عدوانية ضد الدول العربية السنية المحيطة بها، لكنها لم تفعل شيئاً لتهديد الولايات المتحدة، وكانت في الواقع حليفاً ضمنياً للولايات المتحدة لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق.
عقدة أوباما
يردف الكاتب، لذا حاول ترامب أن يتفوق على أوباما ببرنامج بومبيو ذي الاثنتي عشرة خطوة، لكنه لم ينجح، والآن كان رد الفعل الإيراني لانسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية وإعادة فرض العقوبات المصممة لدفع مبيعات النفط الإيرانية إلى الصفر، حسب التقارير نشر وكلاء وعملاء سريون مهاجمة ناقلات النفط والغاز التي تمر عبر الخليج، مما يجبر الولايات المتحدة على حماية جميع خطوط الشحن هذه.
هذا مكلف للغاية بالنسبة للولايات المتحدة ويرهق البحرية. نحتاج إلى حلفاء لمواجهة هذه الاستراتيجية الإيرانية بنجاح، لكن ترامب أبعد حلفاءنا بسبب كذبه المتواصل، وتعريفاته الجمركية على منتجاتهم، ورفضه لرغبتهم في محاولة إعادة التفاوض حول الصفقة النووية الإيرانية في نطاق محدود.
يقول فريدمان: كان بإمكان ترامب الذهاب إلى ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا والصين وقول: «دعونا نحسِّن اتفاق إيران، دعونا نطالب الإيرانيين بتمديد تجميد (تطوير) أسلحتهم النووية لعشر سنوات أخرى -من 15 عاماً إلى 25 عاماً- وحصر جميع تجاربهم الصاروخية في دائرة مداها نصف قطر الشرق الأوسط». لو فعل ذلك لكانت هناك فرصة جيدة أن يحقق ترامب تحسناً معقولاً في الاتفاق، لكن بدلاً من ذلك أراد إظهار أنه قادر على تغيير إيران والتفوق على أوباما.
أزمة كبيرة
الآن وقد خلق هذا أزمة، تراجع بومبيو وترامب، وقالا للعالم إنَّهما لا يسعيان لتغيير النظام ويريدان استخدام الدبلوماسية وحتى التحدث مع المرشد الإيراني الأعلى. لكن الإيرانيين، المتضررين اقتصادياً، اختاروا، في الوقت الحالي على الأقل، تسمية خطوة ترامب بأنها خدعة. لم يهاجموا فقط ممرات الشحن كما يُزعم، لكنهم أعلنوا عن خطط لاستئناف تخصيب يورانيوم أعلى إلى مستويات صنع الأسلحة، إنَّه تصعيد خطير.
في الوقت نفسه، فعلى صعيد كوريا الشمالية، يلاحظ ليتواك، أنَّ إدارة ترامب قد تبنت نسختها الخاصة من نهج انتقدت عليه مسبقاً إدارة أوباما بالتحديد: «الصبر الاستراتيجي». يغض ترامب الطرف عن أدلة متزايدة على أن نظام كيم يواصل تطوير قدرات الصواريخ، ويمكن أن يضربنا.
ويقول ليتواك إنَّ الطريق للخروج من مأزق كوريا الشمالية، كما هو الحال مع إيران، هو التركيز على هدف التغيير -إخلاء شبه الجزيرة من الأسلحة النووية مقدماً- إلى الصفقة، تجميد مؤكد لبرنامج كوريا الشمالية النووي والصاروخي، لمنع وضع سيئ من التحول لأسوأ.
وهدف تصفير الأسلحة النووية لكوريا الشمالية ببساطة ليس على طاولة المفاوضات، لأنَّ أسرة كيم تعتبرها دائماً ضرورية لبقاء النظام. وبعد رؤية ترامب يمزق الاتفاق النووي مع إيران على تويتر، فإن كيم جونغ أون لن يجعل نفسه ضعيفاً بالطريقة ذاتها.
يتصرف بالحدس
عندما سأل جورج ستيفانوبولوس من قناة ABC News ترامب عن التقارير التي تقول إنَّ كوريا الشمالية تنتهك اتفاقاتها الشفهية معه مؤخراً، قال ترامب: «لا أعرف، لا أتمنى. لقد وعدني أنَّه لن يفعل ذلك»
يعلق فريدمان: هذا ما تحصلون عليه أيها الناس، عندما يكون لديكم رئيس يتصرف بالحدس، لا وفق خطط مدروسة جيداً، وهو مغرم بالزعماء الدكتاتوريين أكثر من حلفائنا الديمقراطيين، مدعوم بحزب وشبكة تليفزيونية تردد كالببغاء كل ما يقوله ولا يحاسبونه أبداً، من يعتقد أنَّ العدو ليس له رأي أيضاً في الحرب، ومن لا يفهم القاعدة الأولى لسياسة الشرق الأوسط. في الشرق الأوسط عكس «سيئ» ليس «جيداً»، عكس سيئ هناك غالباً هو اضطراب و«أسوأ»، كن حذراً مما تسعى له. لو أن ترامب حصر نفسه في تعديل جيد بسيط لصفقة إيران كان سيبقي البرنامج النووي الإيراني مجمداً لمدة 25 عاماً، لو لم يشرع في العمل على تغيير إيران لإثبات قدرته على التفوق جذرياً على أوباما، لَكنا في مكان أفضل كثيراً مما نحن فيه الآن، لكننا هنا.
يستنتج ليتواك: «لا تستجيب إيران وكوريا الشمالية للضغط، لكن دون الضغط لن تستجيبا»، لذلك دعونا نكون حقيقيين، لن يجبر أي من النظامين على الانتحار، ولن نشن حرباً لنكتب «نهاية رسمية» لأي منهما، إذا استطعنا تجنبها بأي شكل. يختتم فريدمان مقالته بالقول: «هذه مذكرة إلى ترامب، إذا كنت تريد التفوق على أوباما، فإن الطريق الوحيد لذلك هو طاولة المفاوضات، حيث، لكي تنجح، يتوجب عليك إبرام الصفقة الإجرائية نفسها التي أبرمها أوباما. إذا استطعت الحصول على شروط أفضل، بارك الله فيك، لكن لا تظنن أنك ستفلت من دون التخلي عن شيء، وكن مستعداً لأنَّ يصفك الصقور على قناة Fox TV بأنك «جبان».يتصرف مع إيران وكوريا الشـــمالية بناء على حدسه
copy short url   نسخ
26/06/2019
3102