+ A
A -
بقلم : إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
نظرت بعمق إلى انعكاس صورتي في المرآة، نفس الشعور يراودني منذ مدة، أرى نفسي كامرأة أخرى وكأنني أنفصل لبرهة من الزمن عن هذا الجسد، وكأن الزمن يقف لدقائق عند هذه اللحظة التي أقف فيها أمام مرآتي.
من أنتِ؟ كنت أخاطبني في المرآة، أخاطب الروح المنفصلة عن هذا الجسد، مشاعر متضاربة يختلط فيها الخوف والتعجب والقلق، خوف من هذه المرأة التي تشبهني وماذا ستصنع بي؟!
تعجب واستغراب من هذا الشعور الذي يتكرر بكثرة في الآونة الأخيرة !!
وقلق من أن تضل هذه الروح طريقها عن هذا الجسد!!
في البدء ظننت أن روحي انتزعت من جسدي وإنني أمر بمرحلة الموت، وإن هذه الروح ستودعني للأبد وستترك هذا الجسد بارداً خاوياً.
في كل مرة كنت أتساءل من هذه المرأة التي تشبهني؟ وكنت أحاول الوصول إليها، هي تقف أمامي في المرآة لكنها بعيدة عن متناول يدي، أحاول لمسها للتحقق من إن كانت حقيقة أم محض خيال!!
هي لا تحادثني لكنها تكتفي بابتسامة ساخرة، أحياناً كنت أشعر بالدوار وأتساءل: من منا هي أنا الحقيقية؟
من منا الروح ومن منا الجسد؟
ماذا سيحدث إن هربت مني؟
كيف يمكنني اللحاق بها؟
وأين يمكن لها الاختباء مني؟
هل ترغب في وجودي أم تراني عبئا عليها ترغب في التخلص منه؟
كنت في حيرة ورغبت في الحوار معها، على الرغم من خوفي منها، فلقد شعرت بها إنها أنا بصورتي الأقوى، أنا بانعكاسي الأكثر جرأة، أنا بعقلي الأكثر ذكاء، أنا التي طالما رغبت في الحصول عليها، ربما لو استطعت الإمساك بها قد نندمج سوية ونصبح شخصاً واحداً.
مراراً أراها أمامي وظننت بها تهرب مني، لكنني كنت أنا من يهرب منها وكأنني أخشى
مني، أخشى من هذا الانعكاس الذي يشبهني في المرآة أم أكون أنا انعكاسها وأنا من يشبهها !!
هل هي أنا لكنها قادمة من زمن آخر؟
أم إنها أنا التي كنت أغلق عليها سجون الروح حتى تمردت وأعلنت انفصالها؟
أصبحت أطيل الوقوف أمام المرآة بانتظار لقائها كل يوم، بانتظار أن تبادرني بالحوار فأنا أضعف من حوار نفسي الأخرى بالمرآة.
هي أنا وأنا هي، لكن إحدانا تفوقت على الأخرى، لا أمانع أن أسلمها زمام السيطرة على نفسي إن كانت قادرة على أن تجعل مني إنسانة أقوى مما أنا عليه الآن.
أحببتها وسأظل أتبعها حتى أصل إلى اللحظة التي نتحد فيها سوية، اللحظة التي تلتقي فيها هذه الروح بهذا الجسد.
سيدة البرج العاجي
خرج السجان وأحكم إغلاق الباب من خلفه، كنت أستمع إلى المفتاح وهو يدور في القفل الحديدي، في كل مرة يخرج فيها يحرص أن يغلقه بثلاثة أقفال ضخمة بضخامة الأيام الرتيبة التي تمر علي في هذه الغرفة الدائرية والتي مضى علي فيها قرابة سبعة أعوام.
مازلت أذكر اليوم الأول الذي وضعني فيه في هذا السجن الانفرادي الرتيب، غرفة صغيرة في أعلى البرج العاجي الشاهق الارتفاع لا مجال للفرار منها، مضت لياليّ الأولى في هذه الغرفة مريرة وقاسية بكيت فيها مراراً وتكراراً حتى ارتوت حوائط الغرفة بدموعي الغزيرة توسلت إليه أن يطلق سراحي، لكنه لم يعرني بالاً.
هذا السجان الغامض الذي يتوشح بالقسوة ويلتثم بالكراهية، كان يرفض الحديث معي مطلقاً يحضر دائماً في أوقات محددة يحضر لي طعامي وشرابي ثم يغادر في صمت.
الليلة الأولى لي مازلت أذكرها، كانت مشاعري مزيجا مختلطا من الخوف والغضب، كنت أتساءل عن سبب سجنه لي بهذه الطريقة الغريبة والغامضة، الغريب إنني لم أعرف هوية هذا السجان ولم أعرف قط ما هو جرمي، أضربت عن الطعام في بادئ الأمر لكنه كان قاسياً قسوة الباب الحديدي الذي لا ينسى إغلاقه، لم يلن أمام هشاشتي.. لم يرحم ضعفي وقلة حيلتي في هذا السجن.
مضت الأيام الأولى بطيئة ثقيلة كنت أحسب فيها أنفاسي وأعد قطرات دموعي، وصلت إلى حافة الجنون والانهيار لكن بعد مضي شهرين جاءتني ضيفة في هذا السجن فتاة صغيرة هزيلة صحوت من نومي لأجدها تجلس متقوقعة ملتحفة الهواء تنظر لي بعينين ترتجفان، كانت كجائزة ثمينة أحضرت لي اقتربت منها بصمت وخفة ابتسمت لها فإذا بها ترتمي علي محتضنة لي بقوة، تحدثت معها طوال اليوم هي أيضاً مثلي تماماً لم تعلم لم وضعت في هذا السجن.
سررت بوجودها معي أيما سرور كانت ليلى (وهكذا كان اسمها ) فتاة مرحة، خفيفة الظل تحب إلقاء النكت وكثيراً ما كانت تصنع بي مقالب ظريفة، حتى السجان على الرغم من شخصيته المخيفة لم يسلم من مقالبها، مضت بنا الأيام أخف وطأة ونحن سوية أنا وليلى.
بعد مرور عشرة أشهر من هذا الحبس الانفرادي الشاق صحوناً فجراً على صوت الباب الحديدي وهو يغلق بقوة فإذا بنا أنا وليلى أمام سجينة جديدة، امرأة مسنة لها ضفيرتان طويلتان جداً تلفهما كهالة ضخمة حول رأسها، وترتدي فستانا رماديا رثًّا صنع من الكتان وحذاء باليا ممزقا.
نظرت لنا بتعجب ثم انفجرت تقهقه.. فجأة تحولت ضحكاتها إلى بكاء يمتزج بالصراخ والشهيق استمرت بضع ساعات على هذا الحال ولم تفلح معها محاولتنا في تهدئتها، علمنا فيما بعد أن سناء (ضيفتنا الجديدة) هذه هي طريقتها في إظهار خوفها وقلقها.
كانت سناء على نقيض ليلى تماماً، امرأة حساسة جداً مرهفة المشاعر، شديدة القلق، دائمة التوتر وسريعة البكاء، مضت بنا الأيام والليالي ونحن ثلاث نساء في برج عاجي معزول، نضحك حيناً ونبكي حيناً آخر.. نتسامر كثيراً ونصمت قليلاً.
بعد أن مضى بنا في هذا السجن قرابة العامين وفي إحدى ليالي الصيف الساخنة، إذ بالباب يفتح في غير موعده وتدخل ضيفة جديدة بل الأصح سجينة جديدة تشاركنا غرفتنا الصغيرة، سيدة يظهر للوهلة الأولى أنها من طبقة أرستقراطية من سيدات المجتمع الراقي (عرفت فيما بعد أن اسمها سعاد) امرأة بكامل أناقتها وزينتها، دخلت تمشي برشاقة وهدوء ألقت نظرة خاطفة في أرجاء الغرفة نظرت إلينا بتعالٍ وعجرفة ثم جلست ووجهها مقابل للحائط، نظرنا أنا وليلى وسناء إلى بعضنا البعض بدهشة وتعجب شديدين!! إن غرور هذه المرأة منعها حتى أن تجلس وهي تواجهنا، فضلت أن يكون وجهها مقابلا للحائط.. كان أمرها غريباً ومضحكاً، ظلت تجلس على نفس هذه الوضعية لأيام متتالية، والغريب أنها كانت كمن يحادث نفسه كل مساء قبل النوم.
بذلنا نحن الثلاثة جهداً شديداً حتى استطعنا أن نكسر حاجز الصمت والعزلة الذي فرضته سعاد على نفسها، مضت بنا السنوات سريعة أصبحنا أربع صديقات بل أربع أخوات تجمعهن غرفة صغيرة، غرفة محكمة الإغلاق لا فرار منها، على الرغم من قساوة ومرارة السجن لكنني كنت مسرورة بتواجدي مع صديقاتي اللواتي كنت أشعر في أحيان كثيرة أنهن بناتي لكثرة ما كنت أحن وأعطف عليهن.
هذه الحياة أيام متعاقبة يمتزج فيها الجمال والقبح.. الفرح والسرور..
لكنها لا تدوم تمضي بنا سلسلة الأيام سريعة ومتوالية، كما جمعتنا هذه الغرفة وشهدت على صداقتنا فإنها بدأت في تفريقنا، كما توالى قدومهن فإن بناتي توالى انصرافهن منها، حتى عدت في زنزانتي وحيدة بائسة كأول ليلة لي منذ سبعة أعوام.
لكن على الرغم من وحدتي كالسابق فإنني لم أكن بنفس شدة البؤس والحزن كما كنت في لياليّ الأولى، فأنا أمتلك حصيلة ذكريات رائعة مع بناتي أسترجعها وأسعد بها، بناتي وصديقاتي اللواتي لن أنساهن، سيظل عبق ذكراهن في العقل ومحبتهن في القلب تتأجج.
كما اجتمعنا في هذه الغرفة بشكل غامض فإننا افترقنا في غموض..
هل كن صديقاتي فعلاً؟
هل شاركنني غرفتي في القصر العاجي؟
هل كان جرماً الذي جمعنا في هذه الزنزانة أم أنه حسن حظ أراد لنا أن نلتقي؟
هل كان سجاناً من جمعنا أم أنه صانع للصداقات؟
هل هن بناتي حقيقة أم أنهن من صنع خيالات امرأة على حافة الجنون؟
جل ما أظنه الآن أنهن كن بنات أفكاري.
copy short url   نسخ
26/06/2019
2479